الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ويفتي الملتقط إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه صادق أن يعطيه ، ولا أجبره عليه إلا ببينة : لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف عفاصها ووكاءها والله أعلم لأن يؤدي عفاصها ووكاءها معها ، وليعلم إذا وضعها في ماله أنها لقطة ، وقد يكون ليستدل على صدق المعرف ، أرأيت لو وصفها عشرة يعطونها ، ونحن نعلم أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه فيمكن أن يكون صادقا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل ادعى لقطة في يد واجدها ، فإن أقام البينة العادلة على ملكها وجب تسليمها له ، وإن لم يقم بينة لكن وصفها ، فإن أخطأ في وصفها لم يجز دفعها إليه ، وإن أصاب في جميع صفاتها من العفاص والوكاء والجنس والنعت والعدد والوزن ، فإن لم يقع في نفسه صدقه لم يدفعها إليه ، وإن وقع في نفسه أنه صادق أفتيناه بدفعها إليه جوازا لا واجبا ، فإن امتنع عن الدفع لم يجبر عليه ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال مالك وأحمد : يجبر على دفعها إليه بالصفة : استدلالا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ، فإن جاء طالبها - أو قال باغيها - فادفعها إليه ، فلما أخبر بمعرفة العفاص والوكاء دل على أنه كالبينة في الاستحقاق .

                                                                                                                                            وروى سويد بن غفلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فإن جاء باغيها فعرفك عفاصها ووكاءها فادفعها إليه وهذا نص ، قالوا : ولأن كل أمارة غلب بها في الشرع صدق المدعي جاز أن يوجب قبول قوله كالقسامة ، قالوا : ولأن البينات في الأصول مختلفة ، وما تعذر منها في الغائب مخفف ، كالنساء المنفردات في الولادة ، وإقامة البينة على اللقطة متعذرة ، لا سيما على الدنانير والدراهم التي لا تضبط أعيانها ، فجاز أن تكون الصفة التي هي غاية الأحوال الممكنة أن تكون بينة فيها ، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، فلم يجعل الدعوى حجة ولا جعل مجرد القول حجة بينة ، ولأن صفة المطلوب لا تكون بينة للطالب كالمسروق والمغصوب ، ولأن صفة المطلوب من تمام الدعوى ، فلم يجز أن تكون بينة للطالب قياسا على الطلب .

                                                                                                                                            قال الشافعي - رحمه الله - محتجا عليهم : أرأيت لو وصفها عشرة ، أيعطونها ونحن نعلم أن كلهم كذبة إلا واحدا بعينه ؟ فرد عليه ابن داود فقال : كما لو ادعاها عشرة وأقام كل واحد عليها بينة نقسمها بينهم ، وإن كان صدق جميعهم مستحيلا ، كذلك إذا وصفوها كلهم . والجواب عن هذا من وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 24 ] أحدهما : أن كذب المدعي أسقط للدعوى من كذب الشهود ، ألا ترى أن إكذاب المدعي لنفسه مبطلا للدعوى ، وإكذاب الشهود لأنفسهم غير مبطل للدعوى .

                                                                                                                                            والثاني : أن البينة هي أقصى ما يقدر عليه المدعي وأقوى ما يحكم به الحاكم ، فدعت ضرورة الحاكم في البينة إلى ما لم تدعه من الصفة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : اعرف عفاصها ووكاءها فهو أن ذلك لا لدفعها بصفة العفاص والوكاء ووجوب رده معه ، ولكن لمعان هي أخص بمقصود اللفظ ، منها أنه نبه بحفظ العفاص والوكاء ووجوب رده مع قلته وندارته على حفظ ما فيه ووجوب رده مع كثرته ، ومنها أن يتميز بذلك عن ماله ، ومنها جواز دفعها بالصفة وإن لم يجب ، وعلى هذا حمل حديث سويد بن غفلة الذي جعلوه نصا ، وأما استدلالهم به فنحن ما جعلنا الأمارة على الصدق حجة في قبول الدعوى ، وإنما الأيمان بعدها حجة ، وهم لا يقولون بذلك في اللقطة بعد الصفة فدل على اختلافها .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن البينات في الأصول مختلفة فصحيح ، وليس من جميعها بينة تكون بمجرد الصفة ولا يكون تعذر البينة موجبا أن تكون الصفة بينة ، ألا ترى أن السارق تتعذر إقامة البينة عليه ولا يكون صفة ما بيده لمدعي سرقته حجة ؟

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية