الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " فإذا أعرب عن نفسه فامتنع من الإسلام لم يبن لي أن أقتله ولا أجبره على الإسلام ، وإن وجد في مدينة أهل الذمة لا مسلم فيهم فهو ذمي في الظاهر حتى يصف الإسلام بعد البلوغ " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن من يجرى عليه حكم الإسلام قبل بلوغه على أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : من يجري حكم الإسلام عليه بإسلام أبويه فيصير بإسلامهما مسلما . وروى أبو اليزيد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل مولود يولد على الفطرة ، وأبواه يهودانه وينصرانه كما تناقح الإبل من بهيمة جمعاء هل تحسون من جدعاء ؟ قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين فمعنى قوله : " يولد على الفطرة " يريد على الإقرار بأن الله خالقه : لأن جميع الناس على اختلاف أديانهم يعلمون أن الله خالقهم ، ثم يهود اليهود أبناءهم وينصر النصارى أبناءهم ، أي : يعلمونهم ذلك . وضرب لهم مثلا بالإبل إذا نتجت من بهيمة جمعاء ، والجمعاء هي السليمة ، وإنما سميت بذلك لاجتماع السلامة لها في أعضائها فتجدع أنوف نتاجها وتفقأ عيونها ، فأما إذا أسلم أحد الأبوين فإن كان الأب منهما هو المسلم كان ذلك إسلاما له ، وإن أسلمت الأم فمذهب الشافعي وأبي حنيفة أن إسلامها إسلام له كالأب ، وقال مالك : ليكون إسلام الأم إسلاما له ، وهذا خطأ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام يعلو ولا يعلى " ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : فأبواه يهودانه وينصرانه فجعل اجتماعهما موجبا لتهوده دون انفرادهما ، ولأنها لو أسلمت وهي حامل كان ذلك إسلاما لحملها إذا وضعت كذلك إذا أسلمت بعد الوضع ، ولأنها أحد الوالدين ، فصار الطفل بها مسلما كالأب ، فأما استدلاله بالحرية فقد يعتبر بالأب كما يعتبر بالأم ، ألا ترى أنه لو ولد منه كان الولد حرا ، فإذا ثبت أن إسلام أحد الأبوين يكون إسلاما لغير البالغ من أولادهما ، فكذلك يكون إسلاما لمن بلغ منهم مجنونا : لأن المجنون تبع لغيره ، فأما البالغ العاقل فلا يكون إسلام الأبوين أو أحدهما إسلاما له : لأن الإسلام يصح منه ، وأما إذا بلغ الكافر عاقلا ثم جن فهل يكون إسلام أبويه إسلاما له أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 45 ] أحدهما : لا يكون ذلك إسلاما له : لأنه قد فعل الكفر بنفسه بعد بلوغه فاستقر حكمه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو اختيار أكثر أصحابنا : أنه لا يصير مسلما : لأنه بزوال العقل وخروجه عن حد التكليف قد صار تبعا ، فإذا تقرر ما وصفناه وصار الطفل أو المجنون مسلما بإسلام أبويه أو أحدهما ، ثم بلغ الصبي وأفاق المجنون ، فإن أقاما على الإسلام فقد استدام حكم إسلامهما ، وإن رضيا الكفر لم يقبل منهما وصارا بذلك مرتدين يقتلان إذا أقاما على الردة ، سواء أقرا بالإسلام بعد البلوغ والإفاقة أو لم يقرا به .

                                                                                                                                            وقال بعض أصحابنا : إن كانا بعد البلوغ والإفاقة قد أقرا بالإسلام والتزما حكمه بفعل عبادته من الصلاة والصيام جعلتهما مرتدين ، وإن لم يوجد ذلك منهما لم أحكم بردتهما : لأن جريان حكم الإسلام عليهما تبعا أضعف من جريان حكمه عليهما إقرارا وعملا ، وهذا خطأ لقوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [ الطور : 21 ] فأخبر بإيمان الذرية تبعا لآبائهم ، فلم يجز أن ينتقل حكم الإيمان عنهم ، ولأن ما أوجب إسلامه أوجب إلزامه كالإقرار ، فهذا حكم القسم الأول .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية