الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : ( والغارمون ) صنفان صنف دانوا في مصلحتهم أو معروف وغير معصية ، ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد فيعطون في غرمهم لعجزهم ، فإن كانت لهم عروض يقضون منها ديونهم فهم أغنياء لا يعطون حتى يبرءوا من الدين ، ثم لا يبقى لهم ما يكونون به أغنياء ، وصنف دانوا في صلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض تحمل حمالاتهم أو عامتها وإن بيعت أضر ذلك بهم وإن لم يفتقروا ، فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم كما يعطى أهل الحاجة من الغارمين حتى يقضوا سهمهم ( واحتج ) بأن قبيصة بن المخارق قال تحملت بحمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : نؤديها عنك ، أو نخرجها عنك إذا قدم نعم الصدقة ، يا قبيصة . المسألة حرمت إلا في ثلاثة : رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك ، ورجل أصابته فاقة أو حاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحاجة من قومه أن به فاقة أو حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ثم يمسك . ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له الصدقة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ثم يمسك ، وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت

                                                                                                                                            ( قال الشافعي ) - رحمه الله - فبهذا قلت في الغارمين وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - تحل له المسألة في الفاقة والحاجة ، يعني - والله أعلم - من سهم الفقراء والمساكين لا الغارمين ، وقوله : حتى يصيب سدادا من عيش يعني - والله أعلم - أقل اسم الغنى ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني فبهذا قلت يعطى الغازي والعامل وإن كانا غنيين ، والغارم في الحمالة على ما أبان - عليه السلام - لا عاما " .

                                                                                                                                            [ ص: 508 ] قال الماوردي : وهذا كما قال ، والغارمون صنف من أهل الصدقات ، قال الله تعالى : وفي الرقاب والغارمين [ التوبة : 60 ] ، فجعل لهم من الصدقات سهما وهم صنفان : صنف أدانوا في مصالح أنفسهم ، وصنف أدانوا في مصالح غيرهم ، فأما من أدان في مصلحة نفسه فعلى ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون قد أدان في حق .

                                                                                                                                            والثاني : في تبذير .

                                                                                                                                            والثالث : في معصية .

                                                                                                                                            فأما الأول وهو أن يكون قد أدان في حق فكرجل أدان في جوائح أصابته ، أو نفقات لزمته ، أو معاملات أضرت ، أو زكوات وجبت ، وحج أدي ، وفرض قضي إلى ما جرى مجرى ذلك من واجبات أو مباحات ، فيجوز أن يدفع إلى من صار بها غارما من سهم الغارمين إذا كان فقيرا ، فأما إن كان غنيا ، فلا يخلو ماله من أن يكون ناضا ، أو عقارا ، فإن كان ماله ناضا كالذهب والورق وعروض التجارات ، فلا يجوز أن يدفع إليه من سهم الغارمين : لأنه مستغن عن المعونة على قضاء دينه ، ولأنه قلما يخلو موسر من دين فيجعل كل الموسر من الغارمين ، وإن كان ماله عقارا من دور وضياع كفى أثمانها بدينه ، ففي جواز إعطائه من سهم الغارمين قولان : أصحهما وهو المنصوص عليه في هذا الموضع وأكثر كتبه أنه لا يجوز أن يعطى : لأنه قادر على قضاء دينه كالموسر بمال ناض .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : قاله في القديم وحكي عنه في كتاب الأم أنه يجوز أن يعطى : لأن العاجز عن قضاء الدين إلا من عقار مستقا هو بالمعسرين أشبه عنه بالموسرين فاقتضى أن يكون من جملة الغارمين .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني وهو أن يكون قد أدان في تبذير كرجل بذر في الشهوات واللذات وأسرف في الصلات والهبات لا في بر ولا تقوى ؛ فهذا لا يعطى من سهم الغارمين وله ما يقدر على قضاء دينه منه من ناض أو عقار : لأنه ممنوع من التبذير ، فلأن يعود تبذيره على ماله أولى من أن يعود على مال الصدقات ، وإن كان فقيرا لا يقدر على قضاء دينه من ناض ولا عقار جاز أن يعطى من سهم الغارمين : لأنه منهم في الغرم والحاجة .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث وهو أن يكون قد أدان في معصية ، فإن لم يتب منها وكان مصرا على تلك المعصية لم يجز أن يعطى من سهم الغارمين : لأنه ممنوع من المعصية ، فلا يجوز أن يعان عليها بتحمل الغرم فيها ، وإن كان قد تاب منها وأقلع عنها لم يجز أن يعطى من سهم الغارمين مع الغنى بمال ناض أو عقار : لأن ماله في غرم المعاصي أولى من مال الصدقات ، وفي جواز إعطائه مع الفقر وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لبقاء الغرم مع زوال المعصية .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز : لأنه غرم سببه المعصية .

                                                                                                                                            [ ص: 509 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية