الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : من ينتفع باللقطة .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ويأكل اللقطة الغني والفقير ومن تحل له الصدقة وتحرم عليه ، قد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن كعب - رضي الله عنه - وهو من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم وجد صرة فيها ثمانون دينارا أن يأكلها ، وأن عليا - رضي الله عنه - ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وجد دينارا فأمره أن يعرفه فلم يعرف فأمره النبي بأكله ، فلما جاء صاحبه أمره بدفعه إليه ، وعلي - رضي الله عنه - ممن تحرم عليه الصدقة : لأنه من صلبية بني هاشم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال يجوز لواجد اللقطة بعد تعريفها حولا أن يتملكها ويأكلها ، غنيا كان أو فقيرا . وقال أبو حنيفة : يجوز له ذلك إن كان فقيرا ، ولا يجوز له ذلك إن كان غنيا أن يتملكها ، ويكون مخيرا فيها بين أمرين : إما أن تكون في يده أمانة لصاحبها أبدا كالوديعة ، وإما أن يتصدق بها فإن جاء صاحبها وأمضى صدقته فله ثوابها ولا غرم على الواجد ، وإن لم يمض الصدقة فثوابها للواجد وعليه غرمها : استدلالا بما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها ، وهذا نص .

                                                                                                                                            قال : ولأنه مال يعتبر فيه الحول ، فوجب أن يختلف فيه حال الغني والفقير كالزكاة ، ولأنه مال مسلم فوجب ألا يحل إلا للمضطر قياسا على غير اللقطة ، ودليلنا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - لواجد اللقطة : فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ، يقتضي التسوية بين الغني والفقير . وروي أن أبي بن كعب وجد صرة فيها ثمانون دينارا ، وروي مائة دينار ، فأخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : عرفها حولا ، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ، قال الشافعي : وأبي من أيسر أهل المدينة أو كان أيسرهم ، ولو لم يكن موسرا لصار بعشرين دينارا [ ص: 10 ] منها موسرا على قول أبي حنيفة ، فدل ذلك على أن الفقر غير معتبر فيها ، وأن الغني لا يمنع منها ، وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجد دينارا ، فأتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، وجدت هذا الدينار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عرفه ثلاثا ، فعرفه ثلاثا فلم يجد من يعرفه ، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال : كله أو سائل به . فابتاع منه بثلاثة دراهم شعيرا ، وبثلاثة دراهم تمرا ، وقضى عنه ثلاثة دراهم ، وابتاع بدرهم لحما ، وبدرهم زيتا ، وكان الصرف على أحد عشر درهما بدينار ، حتى إذا أكله جاء صاحب الدينار يتعرفه ، فقال علي - عليه السلام - : قد أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكله ، فانطلق صاحبه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا جاءنا شيء أديناه إليك وكان صاحب الدينار يهوديا .

                                                                                                                                            قال الشافعي : وعلي ممن تحرم عليه الصدقة : لأنه من طينة بني هاشم ، ولو كانت اللقطة تستباح بالفقر دون الغنى لحظرها عليه ، ولأن كل من كان من أهل الالتقاط جاز أن يرتفق بالأكل والتملك كالفقير ، ولأن ما ثبت للفقير في اللقطة ثبت للغني كالنسك والصدقة ، ولأن كل ما استباح الفقير إتلافه بشرط الضمان استباح الغني إتلافه بشرط الضمان كالقرض ، ولا يدخل عليه طعام المضطر لاستوائهما فيه ، وقد جعل المضطر أصلا ، فيقول : كل ارتفاق بمال الغير إذا كان مضمونا استوى فيه الغني والفقير ، كأكل مال الغير للمضطر ، ولأنه استباح إتلاف مال الغير لمعنى في المال ، فوجب أن يستوي فيه حكم الغني والفقير ، كالنحل الصائل ، ولأن كل ما استبيح تناوله عند الإياس في الأغلب من مالكه استوى فيه حكم الغني والفقير كالركاز ، ولأنه لا يخلو حال اللقطة في يد واجدها من أن تكون في حكم المغصوب ، فيجب انتزاعها قبل الحول وبعده من الغني والفقير ، أو في حكم الودائع فلا يجوز أن يتملكها فقير ولا أن يتصدق بها غني ، أو حكم الكسب فيجوز أن يتملكها الغني والفقير ، ومذهب أبي حنيفة فيها مخالف لأصول هذه الأحكام الثلاثة فكان فاسدا .

                                                                                                                                            ثم يقال لأبي حنيفة : الثواب إنما يستحق على المقاصد بالأعمال لا على أعيان الأفعال : لأن صورها في الطاعة والمعصية على سواء ، كالمرائي بصلاته ، ثم لا يصح أن يكون ثواب العمل موقوفا على غير العامل في استحقاقه وإحباطه ، فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : تصدق بها فمحمول على أن الواجد سأله عن ذلك فأذن له فيه .

                                                                                                                                            وأما الزكاة فلا معنى للجمع بينها وبين اللقطة : لأن الزكاة تملك غير مضمون ببدل ، واللقطة تؤخذ مضمونة ببدل ، فكان الغني أحق بتملكها لأنه أوفى ذمة ، وأما ما ذكروه من المضطر فقد جعلناه أصلا ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية