الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 547 ] باب ميسم الصدقات

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : ينبغي لوالي الصدقات أن يسم كل ما أخذ منها من بقر أو إبل في أفخاذها ويسم الغنم في أصول آذانها ، وميسم الغنم ألطف من ميسم الإبل والبقر ، ويجعل الميسم مكتوبا لله ؛ لأن مالكها أداها لله تعالى فكتب لله ، وميسم الجزية مخالف لميسم الصدقة : لأنها أديت صغارا لا أجر لصاحبها فيها ، وكذلك بلغنا عن عمال عمر - رضي الله عنه - أنهم كانوا يسمون وقال أسلم لعمر إن في الظهر ناقة عمياء ، فقال عمر - رضي الله عنه - " ندفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها يقطرونها بالإبل . قال قلت كيف تأكل من الأرض ؟ قال عمر أمن نعم الجزية أو من نعم الصدقة ؟ قلت لا ، بل من نعم الجزية . فقال عمر أردتم والله أكلها ، فقلت إن عليها ميسم الجزية ، قال فأمر بها عمر فنحرت ، قال فكانت عنده صحاف تسع ، فلا تكون فاكهة ولا طريفة إلا وجعل منها في تلك الصحاف ، فيبعث بها إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون الذي يبعث به إلى حفصة - رضي الله عنها - من آخر ذلك ، فإن كان فيه نقصان كان في حظها ، قال فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور فبعث به إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بما بقي من اللحم فصنع فدعا عليه المهاجرين والأنصار . ( قال ) ولا أعلم في الميسم علة إلا أن يكون ما أخذ من الصدقة معلوما ، فلا يشتريه الذي أعطاه : لأنه خرج منه لله كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر - رضي الله عنه - في فرس حمل عليه في سبيل الله فرآه يباع أن لا يشتريه ، وكما ترك المهاجرون نزول منازلهم بمكة لأنهم تركوها لله تعالى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال الميسم عندنا مستحب في مواشي الزكاة والجزية ، وحكي عن أبي حنيفة كراهيته لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعذيب الحيوان ، ودليلنا رواية أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسم إبل الصدقة .

                                                                                                                                            وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى العباس وهو يسم إبله في وجوهها فقال : يا عباس ، لا تسم في الوجه ، فقال : العباس ، والله لا وسمتها بعد هذا إلا في الجاعرتين .

                                                                                                                                            وروى ابن عيينة عن عاصم بن مسعد بن نقادة عن أبيه عن جده نقادة الأسدي أنه قال : [ ص: 548 ] يا رسول الله ، إني رجل مغفل فأين أسم ؟ قال : في موضع الجرم من السالفة ، فقال : يا رسول الله ، اطلب لي طلبة ، قال : ابغني حلبانة ركبانة غير ألا تولد ذات ولد عن ولدها .

                                                                                                                                            المغفل : صاحب الإبل الغفل التي لا سمة عليها ، والجرم : الزمام .

                                                                                                                                            والسالفة : مقدم صفحة العنق ، والحلبانة : ذات لبن يحلب ، والركبانة : ذات ظهر يركب . وروى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب : إن في الظهر ناقة عمياء ، فقال عمر ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها يقطرونها بالإبل ، قلت : فكيف تأكل من الأرض ، قال عمر : من نعم الجزية أم من نعم الصدقة ؟ فقلت : الإبل هي من نعم الجزية ، فقال : عمر أردتم والله أكلها ، فقلت : إن عليها وسم الجزية ، قال : فأمر بها فنحرت . . . الحديث فدل على أن الميسم فعل الأئمة وإجماع الصحابة ، ولأن به تمتاز الأموال مع تميز مستحقها ، وليكون إذا ضلت سببا لردها ، فإذا ثبت جواز الوسم ، فالكلام فيه يشتمل على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الميسم منها .

                                                                                                                                            والثاني : فالذي يكتب عليه .

                                                                                                                                            فأما مكانه فهو كل موضع صلب من البدن وقل شعره ، فإن كان في الإبل والبقر فعلى أفخاذها ، وإن كان في الغنم فعلى أصول آذانها ويكون ميسم الغنم ألطف لأنها ضعيفة لا تصبر من الألم على ما يصبر عليه غيرها . فأما ما يكتب فإن كانت من نعم الصدقة كان بالخيار بين ثلاثة أسماء ، إما أن يكتب عليها صدقة ، أو طهرة ، أو لله ، وهذا أحبها إلى الشافعي تبركا بذكر الله تعالى واقتداء بالسلف ، وإن كانت من الجزية كان بالخيار بين أمرين : إما أن يكتب جزية ، أو يكتب صغارا ، وهذا اجتهاد الشافعي اتباعا لقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] ، فأما تمييزها بجدع الأنوف وقطع الآذان فمكروه لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن المثلة ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية