الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإن كان الطلاق في المرض ، فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون غير مخوف فحكمه حكم الطلاق في الصحة على ما مضى .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون مخوفا ، فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يتعقبه صحة ، فيكون حكمه حكم الطلاق في الصحة ، وبه قال أبو حنيفة ومالك .

                                                                                                                                            وقال زفر بن الهذيل : هو طلاق في المرض يرث فيه ، وهذا خطأ : لأن ما يتعقبه الصحة فليس بمخوف ، وإنما ظن به الخوف .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ألا يتعقبه الصحة ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الموت حادثا عن طريق غيره كمريض غرق ، أو أحرق ، أو سقط عليه حائط ، أو افترسه سبع ، فهذا حكم الطلاق فيه كحكم الطلاق في الصحة ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال مالك : هو طلاق في المرض يرث فيه ، وهذا خطأ : لأن حدوث الموت من غيره يرفع حكمه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون حدوث الموت منه فهو الطلاق في المرض ، فإن كان الطلاق رجعيا توارثا في العدة ، سواء مات الزوج أو الزوجة ، وإن كان الطلاق بائنا ، فإن ماتت الزوجة لم يرثها إجماعا ، وإن مات الزوج فقد اختلف الفقهاء في ميراثها على مذاهب شتى حكى الشافعي منها أربعة مذاهب جعلها أصحابنا أربعة أقاويل له ، قولان منها نصا ، وقولان منها تخريجا .

                                                                                                                                            أحدهما : لا ميراث لها منه كما لا ميراث له منها ، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وابن الزبير - رضي الله عنهم - ومن التابعين ابن أبي مليكة ، ومن الفقهاء المزني وداود ، ونص عليه الشافعي في الجديد .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : أن لها الميراث ما لم تنقض عدتها ، فإن انقضت فلا ميراث لها ، وبه قال من الصحابة عمر وعثمان - رضوان الله عليهما - ومن التابعين عروة وشريح ، ومن الفقهاء أبو حنيفة وصاحباه وسفيان الثوري وهو القول الثاني للشافعي قاله نصا .

                                                                                                                                            [ ص: 150 ] والمذهب الثالث : أن لها الميراث ما لم تتزوج ، وإن انقضت عدتها ، فإن تزوجت فلا ميراث لها ، وبه قال من الصحابة أبي بن كعب - رضي الله عنه - ومن التابعين عطاء ، ومن الفقهاء ابن أبي ليلى وجعله أصحابنا قولا ثالثا للشافعي تخريجا .

                                                                                                                                            والمذهب الرابع : أن لها الميراث أبدا ، وإن تزوجت وهو قول مالك وكثير من فقهاء المدينة ، وجعله أصحابنا قولا رابعا للشافعي تخريجا ، فإذا قيل : لا ترث فدليله ما رواه بعض أصحابنا البغداديون عن الشافعي في بعض أماليه في كتاب الرجعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا ترث مبتوتة ، وهذا الحديث إن كان ثابتا سقط به الخلاف ، ولأنها فرقة تمنع من الميراث في حالة الصحة ، فوجب أن تمنع من الميراث في حال المرض كاللعان ، ولأن كل طلاق يمنع من ميراث الزوج منع من ميراث الزوجة كالطلاق في الصحة ، ولأن استحقاق الميراث فرع على ثبوت العقد ، فلما ارتفع العقد بطلاق المريض كان سقوط الميراث أولى ، وإذا قيل : ترث ، فدليله ما روي أن عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر بنت الأصبغ الكلابية في مرضه ثلاثا ، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : ثم مات بعد تسعة أشهر فورثها عثمان بن عفان .

                                                                                                                                            وروى إبراهيم التميمي أن عبد الله بن مكمل طلق امرأته ، وكان به الفالج فمات بعد سنة ، فورثها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهاتان القضيتان من عثمان عن ارتياء واستشارة الصحابة لا سيما زوجة عبد الرحمن مع إشهار أمرها ومناظرة الصحابة فيها ، فإن قيل : فقد روى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير أنه قال : أما أنا فلا أرى أن تورث مبتوتة ، قلنا : ما ادعينا في المسألة إجماعا فيرتفع ، بخلاف ابن الزبير ، وإنما قلنا : هو قول الأكثرين ، ولأنه لما كان المريض ممنوعا من التصرف فيما زاد على الثلث لما فيه من إضرار الوارث ، فكان أولى أن يكون ممنوعا من إسقاط الوارث ، ولأن التهمة في الميراث تهمتان : تهمة في استحقاقه ، وتهمة في إسقاطه ، فلما كانت التهمة في استحقاقه وهي تهمة القاتل رافعة لاستحقاقه الميراث وجب أن تكون التهمة في إسقاطه بالطلاق رافعة لإسقاط الميراث .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية