الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ( ولو ) أوصى بخدمة عبده ، أو بغلة داره ، أو بثمر بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : الوصية بمنافع الأعيان جائزة ، كالوصية بالأعيان ؛ لأنه لما صح عقد الإجارة عليها ، فأولى أن تصح الوصية بها ، وسواء قيدت الوصية بمدة أو جعلت مؤبدة ، وقال ابن أبي ليلى :

                                                                                                                                            [ ص: 220 ] إن قدرت بمدة تصح فيها الإجارة : صحت ، وإن لم تقدر بمدة تصح فيها الإجارة بطلت حملا للوصية على الإجارة .

                                                                                                                                            وذهب الشافعي وأبو حنيفة ، وجمهور الفقهاء إلى جواز الوصية بها على التأبيد ، بخلاف الإجارة ؛ لأن الوصايا تجوز مع الجهالة كما لو أوصى بسهم من ماله وماله مجهول ، بخلاف الإجارة فإنها لا تصح مع الجهالة .

                                                                                                                                            فإذا صح جوازها مقدرة ومؤبدة فقد ذكر الشافعي الوصية بخدمة العبد ، وبغلة الدار وبثمرة البستان ، فأما الوصية بخدمة العبد فله أن يستخدمه وله أن يؤجره .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يجوز لمن أوصى له بخدمة عبده أن يأمره اعتمادا على ما تضمنته الوصية من الاستخدام دون الإجارة .

                                                                                                                                            وهذا خطأ ؛ لأن الوصية بالخدمة كالوصية بالرقبة ، فلما كان الموصى له بالرقبة يجوز له المعارضة عليها ، لأنه قد ملكها بالوصية ، كان الموصى له بالخدمة أيضا يجوز له المعارضة عليها ؛ لأنه قد ملكها بالوصية .

                                                                                                                                            فإذا ثبت هذا فالوصية بخدمته ضربان : إما مقدرة بمدة أو مؤبدة .

                                                                                                                                            فإن قدرت بمدة كأنه قال : قد أوصيت لزيد بخدمة عبدي سنة ، فالوصية جائزة له بخدمة سنة .

                                                                                                                                            والمعتبر في الثلث منفعة السنة دون الرقبة ، وفي كيفية اعتبارها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما وهو قول ابن سريج : أنه يقوم العبد كامل المنفعة في زمانه كله ، فإذا قيل مائة دينار ، قوم وهو مسلوب المنفعة سنة ، فإذا قيل ثمانون دينارا فالوصية بعشرين دينارا وهي خارجة من الثلث ، إن لم يكن على الموصي دين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو الذي أراه مذهبا : أنه يقوم خدمة مثله سنة ، فتعتبر من الثلث ، ولا تقوم الرقبة ؛ لأن المنافع الممتلكة في العقود والغصوب هي المقومة دون الأعيان . وكذلك في الوصايا .

                                                                                                                                            فإذا علم القدر الذي تقومت به خدمة السنة إما من العين على الوجه الأول ، أو من المنافع على الوجه الثاني نظر :

                                                                                                                                            فإن خرج جميعه من الثلث ، صحت الوصية له بخدمة جميع السنة ، وإن خرج نصفه من الثلث ، رجعت الوصية إلى نصفها ، واستخدمه نصف السنة ، وإن خرج ثلثه من الثلث رجعت الوصية إلى ثلثها ، واستخدمه ثلث السنة .

                                                                                                                                            فإذا تقرر أنه على هذه العبرة ، استحق استخدامه جميع السنة ، فلا يخلو أن يكون في التركة مال غير العبد ، أم لا ؟

                                                                                                                                            [ ص: 221 ] فإن كان في التركة مال غير العبد إذا أمكن الموصى له من استخدامه سنة ، أمكن الورثة في تلك السنة أن يتصرفوا في التركة بما يقابل مثل العبد ، فللموصى له أن يستخدم جميع العبد سنة متوالية حتى يستوفي جميع وصيته ، والورثة يمنعون من التصرف في رقبة العبد حتى تمضي السنة ، فإن باعوه قبلها كان في بيعه قولان كالعبد المؤاجر .

                                                                                                                                            وإن لم يكن في التركة مال غير العبد ولا خلف الموصي سواه ، ففي كيفية استخدام الموصى له سنة ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج :

                                                                                                                                            أحدها : أن يستخدمه سنة متوالية ، ويمنع الورثة من استخدامه والتصرف فيه حتى يستكمل الموصى له سنة وصيته ، ثم حينئذ يخلص للورثة بعد انقضائها .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن يستخدم ثلث العبد ثلاث سنين ، وتستخدم الورثة ثلثيه حتى يستوفي الموصى له سنة وصيته من ثلث العبد في ثلاث سنين ؛ لئلا يختص الموصى له بما لم يحصل للورثة مثلاه .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أنه يتهيأ عليه الموصى له والورثة ، فيستخدمه الموصى له يوما ، والورثة يومين حتى يستوفي سنة وصيته في ثلاث سنين .

                                                                                                                                            والوجه الأول أصح لأنهم قد صاروا إلى ملك الرقبة ، فلم يلزم أن يقابلوا الموصى له بمثلي المنفعة ، ولأن حق الموصى له في استخدام جميع العبد ، فلم يجز أن يجعل في ثلثه ، ولأن حقه متصل ومعجل فلم يجز أن يجعل مؤجلا أو مفرقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية