الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولو أوصى بجارية ومات ، ثم وهب للجارية مائة دينار وهي تساوي مائة دينار ، وهي ثلث مال الميت وولدت ثم قبل الوصية فالجارية له ولا يجوز فيما وهب لها وولدها إلا واحد من قولين : الأول أن يكون ولدها وما وهب لها من ملك الموصى له وإن ردها فإنما أخرجها من ملكه إلى الميت وله ولدها وما وهب لها ؛ لأنه حدث في ملكه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن ذلك مما يملكه حادثا بقبول الوصية وهذا قول منكر لا نقول به ؛ لأن القبول إنما هو على ملك متقدم وليس بملك حادث .

                                                                                                                                            وقد قيل تكون له الجارية وثلث ولدها وثلث ما وهب لها . قال المزني - رحمه الله - : هذا قول بعض الكوفيين . قال أبو حنيفة : تكون له الجارية وثلث ولدها . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : يكون له ثلثا الجارية وثلثا ولدها . ( قال المزني ) وأحب إلي قول الشافعي ؛ لأنها وولدها على قبول ملك متقدم ( قال المزني ) وقد قطع بالقول الثاني إذ الملك متقدم وإذا كان كذلك وقام الوارث في القبول مقام أبيه ، فالجارية له بملك متقدم وولدها وما وهب لها ملك حادث بسبب متقدم ( قال المزني ) : وينبغي في المسألة الأولى أن تكون امرأته أم ولد وكيف يكون أولادها بقبول الوارث أحرارا على أبيهم ولا تكون أمهم أم ولد لأبيهم ؟ وهو يجيز أن يملك الأخ أخاه ، وفي ذلك دليل على أن لو كان ملكا حادثا لولد الميت لكانوا له مماليك ، وقد قطع بهذا المعنى الذي قلت في كتاب الزكاة فتفهمه كذلك نجده إن شاء الله تعالى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال إذا وهب للجارية الموصى بها مال وولدت أولادا من رق لم يخل حال أولادها وما وهب لها من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون في حياة الموصي ، فهو ملكه صائر إلى ورثته بعد موته ومحسوب في ثلثي التركة .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون حادثا بعد قبول الموصى له . فذلك ملك له ، لحدوثه بعد استقرار ملكه .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون حادثا بعد الموت وقبل القبول ، فيكون على القولين في القبول ، فإن قيل : إن القبول هو المملك فذلك ملك الورثة دون الموصى له ، وهل يحتسب به عليهم من ثلثي التركة ؟ على وجهين من اختلاف ما ذكرنا من الوجهين في الموصى به قبل القبول ، هل يكون باقيا على ملك الميت أو متنقلا إلى ورثته ؟ فإن جعلناه باقيا على ملك الميت كان ما حدث من الهبة والأولاد محسوبا على الورثة ، [ ص: 261 ] وإن جعلناه متنقلا إلى الورثة لم يحتسب على الورثة ، فهذا حكم القول الذي يجعل الوصية بالقبول مملكة .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : وهذا قول ينكسر . ا هـ .

                                                                                                                                            وإن قيل : إن القبول يدل على تقدم الملك بالموت ، فأولاد الجارية وما وهب لها ملكا للموصى له ، لا يحتسب به من الثلث ؛ لأن الميت لم يملكه .

                                                                                                                                            إلا أن الشافعي قال على هذا القول وإن ردها فإنما أخرجها من ملكه إلى الميت ، وله ولدها وما وهب لها .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا ، فكان بعضهم يجعل ذلك خارجا على القول الذي رواه عنه ابن عبد الحكم : أن الوصية تدخل في ملك الموصى له بالموت كالميراث ، فكذلك إذا رد الوصية بعد الموت ، فقد أخرجها من ملكه وملك ما حدث من كسبها وولدها .

                                                                                                                                            وقال آخرون : بل هذا خارج منه على القول الذي يجعله بالقبول مالكا من حين الموت .

                                                                                                                                            واختلف من قال بهذا في تأويل كلامه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن معناه وإن رد فكأنما أخرجها من ملكه ؛ لأنه قد كان له أن يتملكها ، فإذا ردها فقد أبطل ملكه .

                                                                                                                                            وقوله : " وله ولدها وما وهب لها " ، يعني : لوارث الموصي .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه محمول على أنه قبلها ، ثم ردها بالهبة . هذا جواب أبي علي بن أبي هريرة ، فهذا شرح مذهب الشافعي في كسبها وولدها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : " للموصى له الجارية وثلث ولدها وثلث ما وهب لها " تعليلا بأنه لا يجوز أن يملكها الموصى له بالوصية إلا ما صار للورثة مثلاه وقد صار إليهم مثلا الجارية ؛ فلذلك صار جميعها للموصى له ولم يصر إليهم مثلا الولد والكسب ؛ فلذلك صار للموصى له من ذلك ثلثه وللورثة ثلثاه .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف ومحمد : له ثلثا الجارية وثلثا ولدها وكسبها .

                                                                                                                                            ولست أعرف تعليلا محتملا ما ذكراه ، وكلا هذين المذهبين فاسد ؛ لأن الكسب والولد تبع لمالك الأصل ، فإن كانت الجارية عند حدوث النماء والمكسب بعد الموت وقبل القبول ملكا للورثة فلهم كل الكسب ، ولا يجوز أن يملك منه الموصى له شيئا .

                                                                                                                                            وإن كانت ملكا للموصى له ، فله كل الكسب ولا يجوز أن يملك منه الورثة شيئا .

                                                                                                                                            فأما تبعيض الملك في النماء والكسب من غير تبعيض ملك الأصل وجه له وليس [ ص: 262 ] بلازم أن يملك الورثة مثلي ما يملكه الموصى له ، بعد استقرار ملكه ، كما لا يلزم فيما حدث من ذلك بعد القبول وإنما يلزم ذلك فيما ملك من تركة بينهم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية