الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
13 - " آكل الربا؛ وموكله؛ وكاتبه؛ وشاهداه؛ إذا علموا ذلك؛ والواشمة والموشومة للحسن ؛ ولاوي الصدقة؛ والمرتد أعرابيا بعد الهجرة؛ ملعونون على لسان محمد يوم القيامة " ؛ (ن) ؛ عن ابن مسعود ؛ (صح).

التالي السابق


(آكل) ؛ بكسر الكاف؛ اسم فاعل؛ وزعم أنه بسكونها وهم؛ (الربا) ؛ أي: متناوله؛ بأي وجه كان؛ وعبر عنه بالأكل مجازا؛ قال الزمخشري : من المجاز: " فلان أكل غنمي؛ وشربها؛ وأكل مالي وشربه" ؛ أي: أطعمه الناس؛ و" أكلت أطفالي الحجارة" ؛ انتهى؛ وبه يستغنى عن قولهم: عبر بالأكل لأنه يأخذه ليأكله؛ أو لأنه المقصد الأعظم من المال؛ وهو بكسر الراء؛ والقصر؛ وألفه بدل من واو؛ ويكتب بها؛ وبياء؛ وينسب إليه؛ فيقال: " ربوي" ؛ بالكسر؛ قال المطرزي : وفتح الراء خطأ؛ وهو لغة: الزيادة؛ وشرعا: عقد على عوض معلوم مخصوص؛ غير معلوم التماثل في معيار الشرع؛ حالة العقد؛ أو مع تأخير في البدلين؛ أو أحدهما؛ وفي شرح المصابيح للقاضي: " الربا" ؛ في الأصل: الزيادة؛ ثم نقل إلى ما يؤخذ زائدا على ما بذل في المعاملات؛ وإلى العقد المشتمل عليه؛ والمراد به ههنا: القدر الزائد؛ أي: الذي تحقق وجوده من العقد؛ المشتمل عليه؛ وبهذا التأويل يردان معا؛ ولكونه منهيا عنه؛ لما فيه من أكل المال بالباطل؛ على وجه مخصوص؛ مع العلم والتعمد؛ بعدما أنزل الله فيه؛ جازى آكله بلعنه؛ تنفيرا عنه؛ وعليه يحمل خبر: " لعن الله الربا؛ وآكله" ؛ إذ اللعنة - وإن كانت فيه واقعة على العقد؛ باعتبار اشتماله على الزيادة - لكن المراد العاقد؛ لتحقق وقوع اللعنة على من تلبس بمحرم؛ بتلبسه به؛ إذ الربا معنى؛ والمعاني لا تلعن حقيقة؛ وإن عبر بها عن فاعل ذلك مجازا؛ لكونها سببا؛ انتهى؛ وهو كبيرة؛ إجماعا؛ ولم يحل في شريعة قط؛ ولم يؤذن الله عاصيا بالحرب غير آكله؛ قال الحراني : يقع الإيثار فيه قهرا؛ وذلك الجور الذي يقابله العدل؛ الذي غايته الفضل؛ فأجور الجور في الأموال الربا؛ كالذي يقتل بقتيل قتيلين؛ وبهذا اشتد الجور بين العبيد؛ الذين حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا؛ انتهى؛ وبه استبان أن تحريمه معقول المعنى؛ خلافا لبعض الأعاجم؛ لا تعبدي محض؛ وزعم أن ما ذكر إنما يصلح حكمة؛ لا علة؛ ممنوع؛ ولما كان تحريمه فيما بين العبد والرب؛ كان فيه الوعيد بالإيذان بالحرب من الله ورسوله؛ ولذلك حمى جميع ذرائعه أشد الحماية؛ وأشدهم في ذلك عالم المدينة؛ حتى إنه حمى من صورته؛ مع الثقة بسلامة الباطن منه؛ وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه؛ وكل من طفف في ميزان فتطفيفه ربا بوجه ما؛ فلذلك تعددت أبوابه؛ وتكثرت أسبابه؛ (وموكله) ؛ مطعمه؛ قال الخطيب: سوى بينهما في الوعيد لاشتراكهما في الفعل؛ وتعاونهما عليه؛ وإن كان أحدهما مغتبطا؛ والآخر مهتضما؛ ولله - سبحانه وتعالى - حدود؛ فلا تتجاوز عند الوجود؛ والعدم؛ والعسر؛ واليسر؛ فضرورة الموكل لا تبيح له أن يوكله الربا؛ لإمكان إزالتها بوجه من وجوه المعاملة والمبايعة؛ فإن فرض تعذره فعليه أن يتجوز عن صريح الربا بضرب من ضروب الحيل المعروفة؛ انتهى؛ وحينئذ يظهر أنه لا كراهة فيها عند القائل [ ص: 54 ] بأنها تنزيهية؛ كالشافعية؛ ولا حرمة عند غيرهم؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات؛ (وكاتبه) ؛ الذي يكتب الوثيقة بين المترابيين؛ (وشاهداه) ؛ أي: اللذان يتحملان الشهادة عليهما؛ وإن لم يؤديا؛ كما قاله بعض شراح مسلم ؛ وفي معناهما: من حضر؛ وأقره؛ قال: وإنما سوى بينهم في اللعن لأن العقد لا يتم إلا بالمجموع؛ ولم يذكر في نسخ: " وشاهداه" ؛ وهي رواية النسائي ؛ وعليها فالمراد بالكاتب ما يشمل الشاهد؛ لأنه شاهد وزيادة؛ (إذا علموا ذلك) ؛ أي: علم كل منهم أنه ربا؛ وأن الربا حرام؛ وهذا الشرط معتبر فيمن بعد هؤلاء أيضا؛ وإنما لم يؤخره لأنه إذا اشترط العلم في الربا مع اشتهار ذمه؛ وإطباق الملل على تحريمه؛ ففي غيره أولى؛ ولو أخره ربما توهم عود الشرط لما وليه فقط؛ وأطنب بتعدد المذكورين وتفصيلهم ليستوعب مزاولته مزاولة ما؛ بأي وجه كان؛ ذكره الطيبي؛ قال: وهذا تصريح بتحريم الكتابة للمترابيين؛ والشهادة عليهما؛ وتحريم الإعانة على الباطل؛ (والواشمة) ؛ التي تغرز الجلد بنحو إبرة؛ وتذر عليه نحو نيلة؛ ليخضر؛ أو يزرق؛ وتأنيثه على إرادة التسمية؛ فيشمل الرجل؛ أو خص الأنثى لأنها الفاعلة لذلك غالبا؛ لا لإخراج غيرها؛ (والموشومة) ؛ المفعول بها ذلك؛ ( للحسن ) ؛ أي: لأجل التحسين؛ ولو لحليل؛ ولا مفهوم له؛ لأن الوشم قبيح شرعا مطلقا؛ لأنه تغيير لخلق الله؛ وتجب إزالته؛ حيث لم يخف مبيح تيمم؛ (ولاوي) ؛ بكسر الواو؛ (الصدقة) ؛ أي: المماطل بدفع الزكاة؛ بعد التمكن؛ وحضور المستحق؛ أو الذي لا يدفعها إلا بإكراه؛ يقال: " لوى مدينه" ؛ مطله؛ و" رجل لوي" ؛ عسر؛ يلتوي على خصمه؛ (والمرتد) ؛ حال كونه؛ (أعرابيا) ؛ بفتح؛ وبياء النسبة إلى الجمع؛ (بعد الهجرة) ؛ أي: والعائد إلى البادية ليقيم مع الأعراب؛ بعدما هاجر مسلما؛ والمراد أنه هاجر؛ إذا وقع سهمه في الفيء؛ ولزمه الجهاد؛ خلع ذلك من عنقه؛ فرجع بعد هجرته أعرابيا كما كان؛ وكان من رجع بعد هجرته بلا عذر يعد كالمرتد؛ لوجوب الإقامة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لنصرته؛ وورد في خبر أنه كبيرة.

قال القاضي: والحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع؛ ولا وازع؛ ويتبرأ عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة؛ والأفعال الشنيعة؛ فهي في الحقيقة التحرز عن ذلك؛ والمهاجر الحقيقي من يتحاشى عنها؛ و" الأعرابي" : ساكن البادية؛ و" الأعراب" : أهل البدو؛ والأصح نسبتهم إلى " عربة" ؛ بفتحتين؛ وهي من تهامة؛ لأن أباهم إسماعيل نشأ بها؛ كذا في المعرب: " الفجر" : الشق؛ ومنه ؛ وفي المصباح: واحد الأعراب: أعرابي؛ بالفتح؛ وهو من يكون ذا نجعة وارتياد للكلإ؛ زاد الأزهري : هبه من الأعراب؛ أو مواليهم؛ (ملعونون) ؛ مطرودون عن مواطن الأبرار؛ لما اجترحوه من ارتكاب هذا الفعل الشنيع؛ الذي هو من كبار الآصار؛ لأن اللعن إبعاد في المعنى؛ والمكانة؛ والمكان؛ إلى أن يصير الملعون بمنزلة السفل في أسفل القامة؛ يلاقي به ضرر الوطء؛ ذكره الحراني ؛ وأصل اللعن من الله (تعالى): إبعاد العبد من رحمته؛ بسخطه؛ ومن الآدمي: الدعاء عليه بالسخط؛ واللعن بالوصف جائز حتى لطائفة من عصاة المؤمنين؛ كما هنا؛ لكن ليس المراد به في حقهم الطرد عن رحمة الله بالكلية؛ بل الإهانة والخذلان؛ ولهذا قال النووي : اتفق العلماء على تحريم اللعن؛ فإن معناه: الإبعاد عن الرحمة؛ ولا يجوز أن يبعد منها من لا تعرف خاتمة أمره معرفة قطعية؛ مسلما أو كافرا؛ إلا من علم بنص أنه مات - أو يموت - كافرا؛ كأبي جهل؛ وإبليس؛ قال: وأما اللعن بالوصف؛ كآكل الربا؛ وموكله؛ والفاسقين؛ وغيرهم؛ مما جاءت النصوص بإطلاقه على الأوصاف؛ لا على الأعيان؛ فجائز؛ وفي شرح الهداية: اللعن نوعان: أحدهما: الطرد عن رحمة الله؛ وهذا ليس إلا للكافرين؛ والثاني: الإبعاد عن درجات الأبرار؛ ومقام الأخيار؛ وهو المراد في هذه الأخبار؛ والحاصل أن الطرد والإبعاد على مراتب في حق العباد؛ وأن اللعن بالشخص بمعنى اليأس من الرحمة؛ لا يجوز حتى لكافر؛ إلا من علم بالنص أنه مات - أو يموت - كافرا؛ ولا حجة للمجوز في خبر: " إذا دعا الرجل زوجته إلى فراشه فأبت؛ لعنتها الملائكة" ؛ لأنه - كما قيل - يحتمل كونه من خصائص المعصوم؛ لأن الخصوصية لا تثبت بالاحتمال؛ بل لأن ذلك ليس من لعن المعين؛ إذ التعيين إنما يحصل باسم؛ أو إشارة؛ ولعن الملائكة ليس من ذلك؛ بل من اللعن بالوصف؛ كأن يقول: اللهم العن من باتت هاجرة فراش زوجها؛ (على لسان محمد) - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لعنا واردا على لسانه؛ مما أوحى الله إليه؛ أو بقوله؛ (يوم [ ص: 55 ] القيامة) ؛ أي: يقول في الموقف: إن الله أمرنا بإبعاد من اتصف بهذه الكبائر؛ ومات مصرا عليها؛ عن مواطن الأبرار؛ ودرجات الأخيار؛ ثم بعد ذلك قد يدركهم العفو بشفاعة؛ أو دونها؛ وقد يعذبون؛ ومصير من مات مسلما إلى الجنة؛ وإن فعل ما فعل؛ وزاد في رواية: (صلى الله عليه وسلم) ؛ وهي من الراوي؛ لا من لفظ الرسول؛ وفيه أن هذه المذكورات من الكبائر؛ وممن صرح بأن التعرب بعد الهجرة من الكبائر العلائي؛ وليوم القيامة أسماء كثيرة؛ جمعها الغزالي؛ ثم القرطبي ؛ فبلغت نحو ثمانين؛ وهذا الترتيب مقصود؛ فأعظم هؤلاء السبعة إثما آكل الربا؛ لأنه مغتبط؛ ثم مطعمه؛ لأنه مضطر لذلك غالبا؛ ثم كاتبه؛ لأن إثمه إنما هو لإعانته على باطل؛ ثم الشهود؛ لإقرارهم عليه.

(ن) ؛ في السير؛ وغيرها؛ وكذا أحمد ؛ والبيهقي ؛ (عن) ؛ أبي عبد الرحمن عبد الله ؛ ( ابن مسعود ) ؛ وفيه الحارث الأعور ؛ قال الهيتمي - بعد عزوه لأحمد ولأبي يعلى والطبراني -: وفيه الحارث الأعور ؛ ضعيف؛ وقد وثق وعزاه المنذري لابن خزيمة؛ وابن حبان ؛ وأحمد ؛ ثم قال: رووه كلهم عن الحارث الأعور ؛ عن ابن مسعود ؛ إلا ابن خزيمة ؛ فعن مسروق عن ابن مسعود ؛ وإسناد ابن خزيمة صحيح؛ انتهى؛ فأهمل المصنف الطريق الصحيح؛ وذكر الضعيف؛ ورمز لصحته؛ فانعكس عليه؛ والحاصل أنه روي بإسنادين؛ أحدهما صحيح؛ والآخر ضعيف؛ فالمتن صحيح.



الخدمات العلمية