الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
230 - " احتجموا لخمس عشرة؛ أو لسبع عشرة؛ أو لتسع عشرة؛ أو إحدى وعشرين؛ لا يتبيغ بكم الدم؛ فيقتلكم " ؛ البزار ؛ وأبو نعيم ؛ في الطب؛ عن ابن عباس .

التالي السابق


(احتجموا) ؛ إرشادا؛ لا إلزاما؛ (لخمس عشرة؛ أو لسبع عشرة؛ أو لتسع عشرة؛ أو إحدى وعشرين) ؛ من الشهر العربي؛ قال ابن القيم: هذا موافق لإجماع الأطباء؛ أن الحجامة في نصف الشهر؛ وما بعده؛ من الربع الثالث من أرباع الشهر؛ أنفع من أوله؛ ومن آخره؛ لغلبة الدم حينئذ؛ الذي جعله علة للأمر بها؛ وخص الأوتار لأنه (تعالى) وتر؛ يحب الوتر؛ نعم محل اختيار هذه الأوقات! إذا أريدت لحفظ الصحة؛ فإن كانت لمرض فعلت وقت الحاجة؛ كما يفيده ما يجيء؛ انتهى؛ وقال ابن جرير : هذا اختيار منه - صلى الله عليه وسلم - للوتر من أيام الشهر؛ على الشفع؛ لفضل [ ص: 181 ] الوتر عليه؛ والله وتر يحب الوتر؛ قال: وإنما خص أمره بحالة انتقاص الهلال؛ من تناهي تمامه؛ لأن ثوران كل ثائر؛ وتحرك كل علة؛ إنما يكون فيما يقال من حين الاستهلال إلى الكمال؛ فإذا تناهى نماؤه؛ وتم تمامه؛ سكن؛ فأمر بالاحتجام في الوقت الذي الأغلب فيه السلامة؛ إلا أن يتبيغ الدم؛ وتدعو الضرورة لبعضهم في الوقت المكروه؛ بحيث تكون غلبة السلامة في عدم التأخير؛ فيفعل حينئذ؛ كما يشير إليه قوله: (لا يتبيغ) ؛ بتحتية؛ ففوقية؛ فموحدة؛ فتحتية؛ فغين معجمة؛ أي: لئلا يتبيغ؛ فحذف حرف الجر؛ مع " أن" ؛ قال ابن الأعرابي : " تبوغ الدم" ؛ و" تبوع" ؛ ثار؛ فالمراد هنا: " لا يثر ويهيج" ؛ (بكم الدم) ؛ يغلبكم؛ ويقهركم؛ (فيقتلكم) ؛ أي: فيكون ثورانه وهيجانه سببا لموتكم؛ وهذا من كمال شفقته على أمته؛ ومحصول التقرير السابق أن الحجامة ضرورية؛ واختيارية؛ فالضرورية عند الحاجة؛ والاختيارية عند ثوران الأخلاط؛ وذلك في الربع الثالث من الشهر.

(تنبيه) : قال أهل المعرفة: الخطاب بالحجامة لأهل الحجاز؛ ومن في معناهم من الأقطار الحارة؛ لرقة دمائهم؛ وميلها لظاهر البدن؛ بجذب الحرارة لها إلى سطح البدن؛ وقد أوضحه بعض الفضلاء؛ فقال: إنما لازم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الحجم؛ وأمر به؛ دون الفصد؛ مع أن الفصد ركن عظيم في حفظ الصحة الموجودة؛ ورد المفقودة؛ لأن مزاج بلده يقتضيه؛ من حيث إن البلاد الحارة تغير المزاج جدا؛ كبلاد الزنج؛ والحبشة؛ فلذلك يسخن المزاج؛ ويجف؛ ويحرق ظاهر البدن؛ ولهذا اسودت أبدانهم؛ ومال شعرهم إلى الجعودة؛ ودقت أسافل أبدانهم؛ وترهلت وجوههم؛ وخرج مزاج أدمغتهم عن الاعتدال؛ فتظهر أفعال النفس الناطقة فيهم من نحو فرح وطرب وخمد وصفاء صوت؛ والغالب عليهم البلادة؛ لفساد أدمغتهم؛ وفي مقابلها في المزاج بلاد الترك؛ فإنها باردة رطبة؛ تبرد المزاج؛ وترطبه؛ وتجعل ظاهر البدن حارا؛ لأن الحرارة تميل من ظاهر البدن لباطنه؛ هربا من ضدها؛ وهو برد الهواء؛ كما في زمن الشتاء؛ فإن الحرارة الغريزية تميل للباطن؛ لبرد الهواء؛ فيجود الهضم؛ ويقل المرض؛ وفي الصيف بالعكس؛ والغرض من ذلك أن بلاد الحجاز حارة يابسة؛ فالحرارة الغريزية بالضرورة تميل لظاهر البدن؛ بالمناسبة التي بين مزاجها ومزاج الهواء المحيط بالبدن؛ فيبرد باطنه؛ فلذلك يدمنون أكل العسل؛ والتمر؛ واللحوم الغليظة؛ فلا تضرهم؛ لبرد أجوافهم؛ وكثرة التحلل؛ فإذا كانت الحرارة مائلة من ظاهر البدن لباطنه؛ لم يحتمل الفصد؛ لأنه إنما يجذب الدم من أعماق العروق؛ وبواطن الأعضاء؛ وإنما تمس الحاجة للحجم؛ لأن الحجامة تجذب الدم من ظاهر البدن فقط؛ فافهم هذه الدقيقة التي أشرف عليها الشارع بنور النبوة؛ ولا تقس عليه ما لا يناسبه من الأحوال.

( البزار ) ؛ في مسنده؛ ( وأبو نعيم ؛ في) ؛ كتاب (الطب) ؛ النبوي؛ وكذا الطبراني ؛ والديلمي ؛ كلهم (عن ابن عباس ) ؛ قال الهيتمي: فيه ليث بن أبي سليم ؛ وهو ثقة؛ لكنه مدلس؛ وقال العراقي: بسند حسن؛ موقوفا؛ ورفعه الترمذي ؛ بلفظ: " إن خير ما تحتجمون فيه..." ؛ إلى آخره؛ بدون ذكر التبيغ؛ وقال: حسن غريب؛ قال: وطريق البزار المتقدمة أحسن من هذه.



الخدمات العلمية