الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2145 ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني يعلى بن عطاء، قال: سمعت جابر بن يزيد بن الأسود السوائي ، عن أبيه قال:

                                                [ ص: 11 ] "صلى بنا النبي - عليه السلام - في مسجد الخيف صلاة الصبح، فلما قضى صلاته إذا رجلان جالسان في مؤخر المسجد، فأتي بهما رسول الله - عليه السلام - ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما الناس وهم يصلون فصليا معهم ; فإنها لكما نافلة. قال: أو تطوع".

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي ، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي ، وجابر بن يزيد السوائي، وثقه ابن حبان وروى له الأربعة، وأبوه يزيد بن الأسود الصحابي - رضي الله عنه -.

                                                والحديث أخرجه أبو داود: ثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاء ، عن جابر بن يزيد بن الأسود ، عن أبيه: "أنه صلى مع رسول الله - عليه السلام - وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد، فدعى بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا. فقال: لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل ; فليصل معه فإنها له نافلة".

                                                وأخرجه الترمذي: نا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: أنا يعلى بن عطاء، قال: ثنا جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال: "شهدت مع النبي - عليه السلام - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: علي بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا. فقال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم ; فإنها لكما نافلة".

                                                [ ص: 12 ] وقال أبو عيسى: حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح.

                                                وأخرجه النسائي أيضا.

                                                قوله: "فأتي بهما رسول الله - عليه السلام -" فيه حذف، والتقدير: فطلبهما رسول الله - عليه السلام - فأتي بهما.

                                                قوله: "ترعد فرائصهما" حال عن الضمير الذي في "بهما".

                                                و "الفرائص" بالفاء والصاد المهملة جمع الفريصة وهي لحمة وسط الجنب عند منبض القلب، تفترص عند الفزع أي ترتعد، وقال ابن الأثير: الفريصة: اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها لا تزال ترعد، وترعد من باب نصر ينصر.

                                                قوله: "في رحالنا" جمع رحل، وهو منزل الإنسان ومسكنه.

                                                قوله: "فإنها لكما" أي فإن الصلاة التي تصليانها مع الناس ثانيا نافلة أي تطوع لكما ; لأن الفرض قد أدي بالأولى.

                                                وقال الخطابي: ظاهر الحديث حجة على من منع عن شيء من الصلوات كلها ; لأنه لم يستثن صلاة دون صلاة، فأما نهيه - عليه السلام - عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس فقد تأولوه على وجهين.

                                                أحدهما: أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب، فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوما يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة.

                                                والوجه الآخر: أنه منسوخ ; لأن حديث جابر بن يزيد بن الأسود متأخر ; لأن في قصته: أنه شهد مع رسول الله - عليه السلام - حجة الوداع. . . " ثم ذكر الحديث.

                                                وفي قوله: "فإنها نافلة" دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب.

                                                [ ص: 13 ] قلت: أما قوله: "إن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب"، فغير مسلم ; لأنه تخصيص من غير مخصص، وهو باطل، فعامة ما في الباب أنهم احتجوا على ذلك بأنه - عليه السلام - قضى سنة الظهر بعد العصر، وقاس عليها كل صلاة لها سبب حتى قال النووي: هو عمدة أصحابنا في المسألة، وليس لهم أصح دلالة منه. ولكن يخدشه ما ذكره الماوردي منهم وغيره أن ذلك مخصوص بالنبي - عليه السلام -.

                                                وقال الخطابي نفسه أيضا: كان النبي - عليه السلام - مخصوصا بهذا دون الخلق.

                                                وقال ابن عقيل: لا وجه له إلا هذا الوجه.

                                                وقال الطبري: فعل ذلك تنبيها لأمته أن نهيه كان على وجه الكراهة لا التحريم.

                                                وأما قوله: "فإنه منسوخ" فغير صحيح ; لأن عمر - رضي الله عنه - ما برح مع النبي - عليه السلام - إلى أن توفي، ولو كان منسوخا لعمل بناسخه مع أنه كان يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير، فدل هذا على أن النهي ليس بمنسوخ، وأن الركعتين بعد العصر مخصوصة به دون أمته، بل الظاهر أن حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "أن النبي - عليه السلام - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب" هو الناسخ لكل ما ورد على خلافه.

                                                وأما قوله: "دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس"، فترده الأحاديث الصحيحة منها: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس"، وغير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا الباب، على أن حديث جابر بن يزيد المذكور حكى البيهقي عن الشافعي فيه أنه قال: إسناده مجهول. ثم قال البيهقي: وإنما قال ذلك لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه جابر ولا لجابر راو غير يعلى بن عطاء .

                                                [ ص: 14 ] فإن قيل: قد صححه الترمذي كما ذكرناه وذكره ابن منده في "معرفة الصحابة"، ورواه بقية ، عن إبراهيم بن يزيد بن ذي حماية ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن يزيد بن الأسود ، عن أبيه. فهذا راو آخر لجابر غير يعلى ابن عطاء وهو ابن عمير .

                                                قلت: لو كان ما كان فلا يساوي حديث عمر - رضي الله عنه -، ويعارض كلام ابن منده ما قاله علي بن المديني: روى عن جابر بن يزيد بن الأسود يعلى بن عطاء، ولم يرو عنه غيره. كما ذكرناه في ترجمته، والنفي مقدم على الإثبات، فيكون يعلى متفردا بهذه الرواية، فلا يتابع عليها.




                                                الخدمات العلمية