الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                773 774 ص: وقد يحتمل أيضا أن يكون ما أراده أبو إسحاق في قوله: ولا يمس ماء يعني الغسل، فإن أبا حنيفة قد روي عنه من هذا شيء:

                                                حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا معاذ بن فضالة ، قال: نا يحيى بن أيوب ، عن أبي حنيفة وموسى بن عقبة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة، أنها قالت: " كان رسول الله -عليه السلام- يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ، وينام ولا يغتسل" . فكان ما ذكر أنه -عليه السلام- لم يكن يفعله إذا جامع قبل نومه هو الغسل، فذلك لا ينفي الوضوء.

                                                التالي السابق


                                                ش: إلى هنا حكم بضعف حديث أبي إسحاق عن الأسود، وبين ذلك بوجوه كثيرة، ثم أشار إلى تأويل حديثه - على تقدير تسليم صحته -: تحريره أن يقال:

                                                [ ص: 551 ] سلمنا أن ما رواه أبو إسحاق عن الأسود صحيح، ولكن تأويل قوله: "ولا يمس ماء" يعني لأجل الغسل لا لأجل الوضوء، وعدم مس الماء لأجل الغسل لا ينفي مسه لأجل الوضوء، وقد روي عن أبي حنيفة ما يقوي هذا التأويل، فعلى كلا التقديرين يثبت المدعى؛ وهو أن الجنب لا ينبغي له أن ينام إلا بعد أن يتوضأ.

                                                وقد قيل: إن المراد به أنه كان في بعض الأوقات لا يمس ماء أصلا؛ لبيان الجواز، إذ لو واظب عليه لتوهم الوجوب.

                                                ثم إسناد حديث أبي حنيفة صحيح؛ لأن رجاله ثقات يحتج بهم، ولا يلتفت إلى كلام ابن حزم في تضعيفه هذا الخبر.

                                                قوله: "يجامع" مفعوله محذوف، أي: يجامع أهله، وأراد بالمجامعة الوطء، على سبيل الكناية.

                                                قوله: "ثم يعود" أي إلى الجماع مرة أخرى من غير تخلل بين الجماعين بوضوء، وهو معنى قوله ولا يتوضأ أي: بين الجماعين.

                                                قوله: " وينام ولا يغتسل" أي على الفور، ولكن نومه قبل الاغتسال لا ينافي وضوءه قبل النوم، فيحمل على هذا حديث أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عائشة في قوله: "لا يمس ماء" يعني الغسل، وهو لا ينافي الوضوء.

                                                فإن قيل: روى مسلم من حديث أبي سعيد: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود، فليتوضأ".

                                                ورواه الأربعة أيضا ورواه ابن خزيمة بزيادة: "وضوءه للصلاة"، ثم قال: هذه لفظة تفرد بها شعبة ، عن عاصم، والتفرد من مثله مقبول عندهما، وهذا

                                                [ ص: 552 ] يدل على أنه لا بد من الوضوء بين الجماعين، وحديث أبي حنيفة لا يدل على هذا.

                                                قلت: هذا الأمر للندب عند الجمهور، والدليل عليه حديث الطواف على ما نذكره، فإذن لا تعارض بين الحديثين؛ لأن حديث أبي حنيفة يبين الجواز، وحديث غيره يبين استحباب الوضوء بين الجماعين، وتعلقت الظاهرية بظاهر الأمر، وقالوا: إنه واجب، وبه قال ابن حبيب المالكي .

                                                وقال ابن حزم في "المحلى": والوضوء فرض بين الجماعين، ثم قال: وبإيجاب الوضوء في ذلك قال عمر بن الخطاب ، وعطاء ، وعكرمة ، وإبراهيم ، والحسن ، وابن سيرين .

                                                وقال أبو عمر بن عبد البر: ما أعلم أحدا من أهل العلم أوجبه إلا طائفة من أهل الظاهر، وأما سائر الفقهاء بالأمصار فلا يوجبونه، وأكثرهم يأمرون به، ويستحبونه.

                                                قلت: في كلام كل واحد من ابن حزم ، وأبي عمر نظر، أما كلام ابن حزم فيعارضه ما أخرجه ابن أبي شيبة، ثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن الحسن: "أنه كان لا يرى بأسا أن يجامع الرجل امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ، قال: وكان ابن سيرين يقول: لا أعلم بذلك بأسا".

                                                وأما كلام أبي عمر فيرده ما حكاه النووي من أن ابن حبيب المالكي يرى بوجوب الوضوء بين الجماعين، على ما ذكرناه.

                                                فإن قيل: يعارض ما رواه مسلم وغيره ما رواه ابن عباس أنه -عليه السلام- [قال] "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة".

                                                [ ص: 553 ] أخرجه أبو عوانة في "صحيحه".

                                                قلت: أجاب بعضهم بأن هذا كله مشروع جائز، فمن شاء أخذ بهذا، ومن شاء أخذ بالآخر، وأجاب بعضهم بأن المراد من قوله في رواية مسلم: "فليتوضأ" هو الوضوء اللغوي، والدليل عليه حديث [ابن عمر] قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا أتى أحدكم أهله فأراد أن يعود فليغسل فرجه". وقال ابن أبي شيبة، ثنا عبدة بن سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا أتى أهله ثم أراد أن يعود غسل وجهه وذراعيه".

                                                قلت: فيه نظر لأن زيادة ابن خزيمة "وضوءه للصلاة" تنافي هذا الكلام، وأيضا معنى قوله: "فليتوضأ" الوضوء المعهود؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل، وحديث ابن عمر الصحيح أنه موقوف عليه، قاله الترمذي عن البخاري .

                                                أما حديث الطواف فما أخرجه البخاري وغيره، فقال البخاري:

                                                حدثنا محمد بن بشار، ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، ثنا أنس -رضي الله عنه-: "كان النبي -عليه السلام- يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة، قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين". وقال سعيد ، عن قتادة، أن أنسا حدثهم: "تسع نسوة".

                                                [ ص: 554 ] وجاء في صحيح الإسماعيلي: من حديث أبي يعلى ، عن أبي موسى ، عن معاذ: "قوة أربعين" وفي "الحلية" لأبي نعيم ، عن مجاهد: "أعطي قوة أربعين رجلا كل رجل من رجال أهل الجنة".

                                                وزعم المهلب أن دورانه -عليه السلام- هذا يحتمل أن يكون في يوم من القسمة ينتهي فيقرع في هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعد ذلك.

                                                وقيل: يحتمل أن يكون ذلك عند إقباله من سفر حيث لا قسمة تلزم، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك بإذنهن أو بإذن صاحبة النوبة، هذا على قول من يرى أن القسم كان عليه واجبا، وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى تأويل.

                                                وذكر ابن العربي: أن الله خص نبيه -عليه السلام- في النكاح بأشياء، منها أنه أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق، يدخل فيها على جميع أزواجه فيفعل ما يريد بهن، ثم يدخل عند التي يكون الدور لها.

                                                وفي "مسلم": عن ابن عباس أن تلك الساعة كانت بعد العصر فلو اشتغل عنها لكانت بعد المغرب وغيره، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية