الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          960 943 - ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل ) بقاف ثم فاء ، بزنة رجع ، ومعناه : ( من غزو أو حج أو عمرة يكبر ) الله تعالى ( على كل شرف ) بفتح المعجمة والراء ثم فاء ، أي مكان عال ( من الأرض ) ولمسلم من رواية عبيد الله عن نافع : إذا أوفى على ثنية أو فدفد كبر ، أي ارتفع على ثنية ، بمثلثة فنون فتحتية ، هي العقبة ، وفدفد بفتح الفاءين بعد كل دال مهملة ، الأشهر أنه المكان المرتفع ، وقيل : الأرض المستوية ، وقيل : الفلاة الخالية من شجر وغيره ، وقيل : غليظ الأودية ذات الحصى .

                                                                                                          ( ثلاث تكبيرات ) قال الطيبي : وجه التكبير على الأماكن العالية هو ندب الذكر عند تجدد الأحوال والتقلبات ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي ذلك في الزمان والمكان .

                                                                                                          وقال الحافظ الزين العراقي : مناسبته أن الاستعلاء محبوب للنفس ، وفيه ظهور وغلبة ، فينبغي للمتلبس به أن يذكر عنده أن الله أكبر من كل شيء ، ويكرر ذلك ، ويستمطر منه المزيد .

                                                                                                          ( ثم يقول : لا إله إلا الله ) بالرفع على الخبرية بلا ، أو على البدلية من الضمير المستتر في الخبر المقدر ، أو من اسم لا باعتبار محله قبل دخولها ( وحده ) حال ، أي منفرد ( لا شريك له ) عقلا لاستحالته ، ونقلا : ( وإلهكم إله واحد ) ( سورة البقرة الآية : 163 ) في آيات أخر ، وهو تأكيد لوحده ، لأن المتصف بها لا شريك له ( له الملك ) بضم الميم ، السلطان والقدرة وأصناف المخلوقات ( وله الحمد ) زاد في رواية للطبراني : " يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت بيده الخير " ( وهو على كل شيء قدير ) قال الحافظ : يحتمل أنه كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير على المكان المرتفع ، ويحتمل أنه يكمل الذكر مطلقا ، ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط ، قال القرطبي : وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد [ ص: 591 ] بإيجاد جميع الموجودات ، وأنه المعبود في جميع الأماكن .

                                                                                                          ( آيبون ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي نحن آيبون ، جمع آيب بوزن راجع ، ومعناه : أي راجعون إلى الله ، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع ، فإنه تحصيل الحاصل ، بل الرجوع في حالة مخصوصة ، وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة ، والاتصاف بالأوصاف المذكورة ( تائبون ) من التوبة ، وهي الرجوع عما هو مذموم شرعا إلى ما هو محمود شرعا ، وفيه إشارة إلى التقصير في العبادة ، وقاله - صلى الله عليه وسلم - تواضعا ، أو تعليما لأمته ، أو المراد أمته ، وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة ، فيكون المراد أن لا يقع منهم ذنب .

                                                                                                          ( عابدون ساجدون لربنا حامدون ) كلها رفع بتقدير : نحن ، وقوله : لربنا متعلق بساجدون ، أو بسائر الصفات على طريق التنازع .

                                                                                                          ( صدق الله وعده ) فيما وعد به من إظهار دينه بقوله : ( وعدكم الله مغانم كثيرة ) ( سورة الفتح : الآية 20 ) وقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) ( سورة النور : الآية : 55 ) الآية .

                                                                                                          وهذا في سفر الغزو ، ومناسبته للحج والعمرة قوله : ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) ( سورة الفتح : الآية 27 ) ( ونصر عبده ) محمدا ، صلى الله عليه وسلم ( وهزم الأحزاب وحده ) من غير فعل أحد من الآدميين ، ولا سبب من جهتهم ، وهذا معنى الحقيقة ، فإن العبد وفعله خلق لربه ، والكل منه وإليه ، ولو شاء أن يبيد الكفار بلا قتال لفعل ، وفيه التفويض إلى الله تعالى ، قيل الأحزاب هنا : كفار قريش ، ومن وافقهم ، الذين تحزبوا ، أي تجمعوا في غزوة الخندق ، ونزل فيهم سورة الأحزاب ، وقيل : المراد أعم من ذلك ، أي أحزاب الكفار في جميع الأيام والمواطن ، قال النووي : والمشهور الأول قيل : فيه نظر لأنه يتوقف على أن هذا الذكر ، إنما شرع من بعد الخندق ، وأجيب بأن غزواته التي خرج فيها بنفسه محصورة ، والمطابق منها لذلك غزوة الخندق لظاهر قوله تعالى : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال ) ( سورة الأحزاب : الآية 25 ) وقوله قبل ذلك : ( إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ) ( سورة الأحزاب : الآية 9 ) الآية .

                                                                                                          وأصل الحزب : القطعة المجتمعة من الناس ، فاللام إما جنسية ، أي كل من تحزب من الكفار ، وإما عهدية ، والمراد : من تقدم وهو الأقرب .

                                                                                                          قال القرطبي : ويحتمل أن يكون هذا الخبر بمعنى الدعاء ، أي اللهم اهزم الأحزاب ، والأول أظهر .

                                                                                                          ثم ظاهر الحديث اختصاص ذلك بالغزو والحج والعمرة ، والجمهور على أنه يشرع قول ذلك في كل سفر طاعة كصلة رحم ، وطلب علم لما يشمل الجميع من اسم الطاعة ، وإنما اقتصر الصحابي على الثلاث لانحصار سفره - صلى الله عليه وسلم - فيها ، وقيل : يتعدى أيضا إلى السفر المباح ، لأن المسافر فيه لا ثواب له ، فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب [ ص: 592 ] وقيل : يشرع في سفر المعصية أيضا ، لأن مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيره ، وتعقب بأن هذا يخصه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح ولا معصية من الإكثار من ذكر الله ، وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص ، فذهب قوم إلى الاختصاص لكونها عبادات مخصوصة ، شرع لها ذكر مخصوص ، فتختص به كالذكر المأثور عقب الأذان ، وعقب الصلاة ، انتهى .

                                                                                                          وفيه جواز السجع في الدعاء بلا تكلف ، وإنما ينهى عن المتكلف ، لأنه يشغل عن الإخلاص ، ويقدح في النية ، ورواه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف .

                                                                                                          وفيه الدعوات عن إسماعيل ومسلم من طريق معن ، الثلاثة عن مالك به ، وتابعه عبيد الله وأيوب والضحاك عن نافع عند مسلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية