الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أن لا تخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج قال فلما كان يوم عرفة جاءه عبد الله بن عمر حين زالت الشمس وأنا معه فصاح به عند سرادقه أين هذا فخرج عليه الحجاج وعليه ملحفة معصفرة فقال ما لك يا أبا عبد الرحمن فقال الرواح إن كنت تريد السنة فقال أهذه الساعة قال نعم قال فأنظرني حتى أفيض علي ماء ثم أخرج فنزل عبد الله حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي فقلت له إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فاقصر الخطبة وعجل الصلاة قال فجعل الحجاج ينظر إلى عبد الله بن عمر كيما يسمع ذلك منه فلما رأى ذلك عبد الله قال صدق سالم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          911 897 - ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن سالم بن عبد الله أنه قال : كتب عبد الملك بن مروان ) الأموي ( إلى الحجاج بن يوسف ) الثقفي الظالم المبتر المختلف في كفره ولي إمرة العراق عشرين سنة ، ومات سنة خمس وتسعين ( أن لا تخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج ) أي أحكامه ، وللقعنبي : كتب إليه أن يأتم به في الحج ، وكان ذلك حين أرسله إلى قتال ابن الزبير ، وجعله واليا على مكة ، وأميرا على الحاج كما في البخاري عن عقيل ، عن ابن شهاب : أخبرني سالم : أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل ابن عمر كيف يصنع في الموقف يوم عرفة ( قال ) سالم : ( فلما كان ) وجد ( يوم عرفة جاءه عبد الله بن عمر حين زالت الشمس ، وأنا معه ) ابن عمر ، والجملة حالية ( فصاح به ) : ناداه ( عند سرادقه ) بضم السين ، قاله الحافظ والكرماني وغيرهما ، وتعقب بأنه إنما هو الذي يحيه بالخيمة ، وله باب يدخل منه إليها إنما يعمله غالب الملوك والأكابر ( أين هذا ) أي الحجاج بيان للصياح ( فخرج عليه وعليه ملحفة ) بكسر الميم وإسكان اللام ، ملاءة يلتحف بها ، قال الحافظ : أي إزار كبير ( معصفرة ) مصبوغة بالعصفر ( فقال : ما لك يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ( فقال : الرواح ) بالنصب ، أي عجل ، أو رح ، أو على الإغراء ( إن كنت تريد السنة ) وفي رواية ابن وهب : إن كنت تريد أن تصيب السنة ، قال ابن عبد البر : هذا الحديث يدخل عندهما في المسند ، لأن المراد سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أطلقت ما لم تضف إلى صاحبها كسنة العمرين ، قال الحافظ : وهي مسألة خلاف عند أهل الحديث والأصول وجمهورهم ، على ما قال ابن عبد البر ، وهي طريقة البخاري ومسلم ويقويه قول سالم لابن شهاب ، إذ قال له : أفعل ذلك [ ص: 536 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : وهل يتبعون إلا سنته ؟ ( فقال : أهذه الساعة ) وقت الهاجرة ( قال : نعم ) هو وقت الرواح إلى الموقف لحديث ابن عمر أيضا : " غدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة ، فنزل نمرة وهو منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهجرا ، فجمع بين الظهر والعصر ، ثم خطب الناس ، ثم راح فوقف " أخرجه أحمد وأبو داود وظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها ، لكن في مسلم عن جابر : أن توجهه - صلى الله عليه وسلم - منها كان بعد طلوع الشمس ، ولفظه : فضربت له قبة بنمرة فنزل بها حتى زاغت الشمس أمر بالقصواء ، فرحلت ، فأتى بطن الوادي ( قال : فأنظرني ) بفتح الهمزة وكسر الظاء المعجمة ، أي أخرني ، ويروى بألف وصل وضم الظاء ، أي انتظرني ( حتى أفيض علي ماء ) أي أغتسل ( ثم أخرج ) بالنصب ، عطفا على أفيض ( فنزل عبد الله ) عن مركوبه ، وانتظر ( حتى خرج الحجاج ) من مغتسله ، ففيه الغسل لوقوف عرفة لانتظار ابن عمر له ، والعلماء يستحبونه ، قاله ابن بطال ، ويحتمل أن ابن عمر إنما انتظره لحمله على أن اغتساله عن ضرورة .

                                                                                                          ( فسار بيني وبين أبي ) عبد الله ( فقلت له ) أي الحجاج ( إن كنت تريد أن تصيب ) : توافق ( السنة ) النبوية ( اليوم ، فاقصر الخطبة ) بوصل الهمزة وضم الصاد وقطعها وكسر الصاد .

                                                                                                          وقد أخرج مسلم في الجمعة أثناء حديث لعمار الأمر بإقصار الخطبة ، قال ابن التين : أطلق أصحابنا العراقيون أن الإمام لا يخطب يوم عرفة .

                                                                                                          وقال المدنيون والمغاربة ، وهو قول الجمهور : ومعنى قول العراقيين أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلق بالصلاة كخطبة الجمعة ، وكأنهم أخذوه من قول مالك : كل صلاة يخطب لها يجهر فيها بالقراءة ، فقيل له ، فعرفة يخطب فيها ، ولا يجهر بالقراءة ، فقال : إنما تلك للتعليم .

                                                                                                          ( وعجل الصلاة ) هكذا رواه الجمهور كيحيى وابن القاسم وابن وهب ، ورواه القعنبي وابن يوسف وأشهب ، وعجل الوقوف ، قال ابن عبد البر : وهو غلط لأن أكثر الرواة عن مالك قالوا : الصلاة ، قال : لكن لها وجه ، لأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة ، قاله الحافظ ، والظاهر أن الاختلاف فيه من مالك ، وكأنه ذكر باللازم لأن الغرض بتعجيل الصلاة حينئذ تعجيل الوقوف .

                                                                                                          ( قال ) سالم : ( فجعل ) الحجاج ( ينظر إلى عبد الله بن عمر كيما يسمع ذلك ) الذي قلت له ( منه ) ففيه الفهم بالإشارة والنظر لقوله : ( فلما رأى ذلك ) نظره إليه ( عبد الله قال : صدق سالم ) وفيه أن إقامة الحاج إلى الخلفاء ، وأن الأمير يعمل في الدين [ ص: 537 ] لقول العلماء ويسير إلى رأيهم ، ومداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة عليهم في ذلك ، وفتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره ، وابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل عنه ، قاله المهلب ، وتعقبه ابن المنير أن ابن عمر إنما ابتدأ بذلك لمسألة عبد الملك له في ذلك ، فإن الظاهر أنه كتب إليه كما كتب إلى الحجاج ، وفيه طلب العلو لتشوف الحجاج إلى ما أخبره به سالم من ابن عمر ، ولم ينكره عليه ، وتعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس ، واحتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكثيرة ، يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه ، وفيه الحرص على نشر العلم لانتفاع الناس به ، وصحة الصلاة خلف الفاسق ، وأن التوجه إلى مسجد عرفة حين الزوال للجمع بين الظهرين في أول وقت الظهر سنة ، ولا يضر التأخير بقدر ما يشتغل به المرء من تعلقات الصلاة كالغسل ونحوه ، قال الطحاوي : وفيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم ، ورده الزين بن المنير بأن الحجاج لم يكن يتقي المنكر الأعظم من سفك الدماء وغيره حتى يتقي المعصفر ، وإنما لم ينه ابن عمر لعلمه أنه لا ينجع فيه النهي ، ولعلمه أن الناس لا يقتدون بالحجاج ، ونظر فيه الحافظ بأن الحجة إنما هي بعدم إنكار ابن عمر فبه يتمسك الناس في اعتقاد الجواز .

                                                                                                          وقال المهلب : فيه تأمير الأدون على الأفضل ، وتعقبه ابن المنير بأن صاحب الأمر في ذلك عبد الملك ، وليس بحجة ولا سيما في تأمير الحجاج ، وإنما أطاع ابن عمر بذلك فرارا من الفتنة .

                                                                                                          وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، والقعنبي والنسائي من طريق أشهب الثلاثة عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية