الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها قال وما هن يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية فقال عبد الله بن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          741 734 - ( مالك عن سعيد ) بكسر العين ( بن أبي سعيد ) كيسان ( المقبري ) بضم الباء وفتحها ( عن عبيد بن جريج ) بتصغيرهما التيمي مولاهم المدني ثقة ، قال الحافظ : وليس بينه وبين عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي مولى بني أمية نسب فقد يظن أن هذا عمه ، وليس كذلك وهذا من رواية الأقران لأن عبيدا وسعيدا تابعيان من طبقة واحدة ، ( أنه قال لعبد الله بن عمر : يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ، ( رأيتك تصنع أربعا ) من الخصال ( لم أر أحدا من أصحابك ) أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بعضهم ( يصنعها ) مجتمعة ، وإن كان يصنع بعضها قاله المازري .

                                                                                                          وظاهر السياق انفراد ابن عمر بما كان ذكر دون غيره ممن رآهم عبيد ، ( قال : وما هن يابن جريج ؟ قال : رأيتك لا تمس من الأركان ) الأربعة للكعبة ( إلا ) الركنين ( اليمانيين ) بتخفيف الياء لأن الألف بدل من إحدى يائي النسب ، ولا يجمع بين البدل والمبدل ، وفي لغة قليلة تشديدها على أن الألف زائدة لا بدل والمراد بهما الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود وهو العراقي لأنه إلى جهته تغليبا ، ولم يقع التغليب باعتبار الأسود خوف الاشتباه على جاهل ، ولم يقع باعتبار العراقيين لخفة اليمانيين ، والتخفيف من محسنات التغليب ، وظاهره أن غير ابن عمر من الصحابة الذين رآهم عبيد كانوا يستلمون الأركان كلها ، وصح ذلك عن معاوية وابن الزبير ، وروي عن الحسن والحسين وجابر .

                                                                                                          ( ورأيتك تلبس ) بفتح أوله وثالثه ، ( النعال السبتية ) بكسر السين المهملة وسكون الموحدة ففوقية أي التي لا شعر فيها مشتق من السبت وهو الحلق قاله الأزهري ، أو لأنها سبتت بالدباغ أي لانت ، قال أبو عمرو الشيباني : السبت كل جلد مدبوغ ، وقال أبو زيد : جلود البقر مدبوغة أم لا ، أو نوع من الدباغ يقلع الشعر ، أو جلد البقر المدبوغ بالقرظ ، وقيل : بالسبت بضم أوله نبت يدبغ به قاله صاحب المنتهى .

                                                                                                          وقال الداودي : هي منسوبة إلى موضع يقال له : سوق السبت .

                                                                                                          وقال ابن وهب : كانت سوداء لا شعر فيها ، وقيل هي التي لا شعر عليها أي لون كانت ، ومن أي جلد كانت ، وبأي دباغ [ ص: 368 ] دبغت .

                                                                                                          وقال عياض في الإكمال : الأصح عندي أن اشتقاقها وإضافتها إلى السبت الذي هو الجلد المدبوغ أو إلى الدباغة لأن السين مكسورة ، ولو كانت من السبت الذي هو الحلق كما قال الأزهري وغيره لكانت النسبة سبتية بالفتح ، ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا غيره ولا في الشعر فيما علمت إلا بالكسر ، قال : وكان من عادة العرب لبس النعال بشعرها غير مدبوغة ، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره ، ويلبسها أهل الرفاهية .

                                                                                                          ( ورأيتك تصبغ ) بضم الموحدة وحكي فتحها وكسرها ، ( بالصفرة ) ثوبك أو شعرك ، ( ورأيتك إذا كنت ) مستقرا ( بمكة أهل الناس ) أي رفعوا أصواتهم بالتلبية للإحرام بحج أو عمرة ، ( إذا رأوا الهلال ) أي هلال ذي الحجة ، ( ولم تهلل ) بلامين بفك الإدغام ( أنت حتى يكون ) أي يوجد ، وفي رواية كان أي وجد ( يوم ) بالرفع فاعل يكون التامة والنصب خبر على أنها ناقصة ، ( التروية ) ثامن ذي الحجة لأن الناس كانوا يروون فيه من الماء أي يحملونه من مكة إلى عرفات ليستعملوه شربا وغيره ، وقيل غير ذلك .

                                                                                                          ( فتهل أنت ) وتبين من جوابه أنه كان لا يهل حتى يركب قاصدا إلى منى ( فقال عبد الله بن عمر : أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس ) ، وفي رواية : يستلم منها ( إلا ) الركنين ( اليمانيين ) بالتخفيف لأنهما على قواعد إبراهيم ومسهما واستلامهما مختلف ، فالعراقي منه وهو استلامه بالتقبيل لاختصاصه بالحجر الأسود إن قدر وإلا فبيده أو بعود ثم وضعه على فيه بلا تقبيل ، واليماني مسه بيده ثم يضعها على فيه بلا تقبيل ، ولا يمسه بفيه بخلاف الشاميين فليسا على قواعد إبراهيم فلم يمسهما فالعلة ذلك ، قال القابسي : لو أدخل الحجر في البيت حتى عاد الشاميان على قواعد إبراهيم استلما ، قال ابن القصار : ولذا لما بنى ابن الزبير الكعبة على قواعده استلم الأركان كلها ، والذي قاله الجمهور سلفا وخلفا أن الشاميين لا يستلمان ، قال عياض : واتفق عليه أئمة الأمصار والفقهاء ، وإنما كان الخلاف في ذلك في العصر الأول من بعض الصحابة وبعض التابعين ثم ذهب ، وقال بعض العلماء : اختصاص الركنين بين بالسنة ومستند التعميم القياس ، وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجورا بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت ، وكيف يهجره وهو يطوف به ؟ ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا ، ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به .

                                                                                                          ( وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ) أشار إلى تفسيرها [ ص: 369 ] بذلك وهكذا قال جماهير أهل اللغة والغريب والحديث أنها التي لا شعر فيها .

                                                                                                          ( ويتوضأ فيها ) أي النعال أي يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان قاله النووي .

                                                                                                          ( فأنا أحب أن ألبسهما ) اقتداء به ، ( وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها ) ، قال المازري : قيل : المراد صبغ الشعر ، وقيل : صبغ الثوب ، قال : والأشبه الثاني لأنه أخبر أنه صلى الله عليه وسلم صبغ ، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صبغ شعره ، قال عياض : وهذا أظهر الوجهين ، وقد جاءت آثار عن ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته ، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران رواه أبو داود ، وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته ، وأجيب عن الأول باحتمال أنه كان مما يتطيب به لا أنه كان يصبغ بها شعره .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : لم يكن صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة إلا ثيابه ، وأما الخضاب فلم يكن يخضب ، وتعقبه في المفهم بأن في سنن أبي داود عن أبي رمثة قال : " انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وفرة وفيها ردع من حناء وعليه بردان أخضران " ، قال الولي العراقي : وكأن ابن عبد البر إنما أراد نفي الخضاب في لحيته فقط .

                                                                                                          ( وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته ) أي تستوي قائمة إلى طريقه ، قال المازري : ما تقدم من جواباته نص في عين ما سئل عنه ، ولما لم يكن عنده نص في الرابع أجاب بضرب من القياس ، ووجه أنه لما رآه في حجه من غير مكة إنما يهل عند الشروع في الفعل أخر هو إلى يوم التروية لأنه الذي يبتدأ فيه بأعمال الحج من الخروج إلى منى وغيره .

                                                                                                          وقال القرطبي : أبعد من قال هذا قياس بل هو تمسك بنوع الفعل الذي رآه يفعله ، وتعقب بأن ابن عمر ما رآه صلى الله عليه وسلم أحرم من مكة يوم التروية كما رآه استلم الركنين اليمانيين فقط ، بل رآه أحرم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته ، فقاس الإحرام من مكة على الإحرام من الميقات لأنها ميقات الكائن بمكة فأحرم يوم التروية لأنه يوم التوجه إلى منى والشروع في العمل قياسا على إحرامه صلى الله عليه وسلم من الميقات حين توجه إلى مكة ، فالظاهر قول المازري ، وقد قال ابن عبد البر : جاء ابن عمر بحجة قاطعة نزع بها فأخذ بالعموم في إهلاله صلى الله عليه وسلم ولم يخص مكة من غيرها ، فكأنه قال : لا يهل الحاج إلا في وقت يتصل له عمله وقصده إلى البيت ومواضع المناسك والشعائر لأنه صلى الله عليه وسلم أهل واتصل له عمله .

                                                                                                          ووافق ابن عمر على هذا جماعة من السلف ، وبه قال الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك ، والرواية الأخرى : الأفضل أن يحرم من أول ذي الحجة .

                                                                                                          قال عياض : وحمل شيوخنا رواية استحباب الإهلال يوم التروية على من كان خارجا من مكة ، ورواية استحبابه أول الشهر على من كان في [ ص: 370 ] مكة وهو قول أكثر الصحابة والعلماء ليحصل له من الشعث ما يساوي من أحرم من الميقات ، قال النووي : والخلاف في الاستحباب وكل منهما جائز بالإجماع ، وكلام القاضي وغيره يدل على ذلك ، قال ابن عبد البر : في الحديث دليل على أن الاختلاف في الأفعال والأقوال والمذاهب كان موجودا في الصحابة ، وهو عند العلماء أصح ما يكون من الاختلاف وإنما اختلفوا بالتأويل المحتمل فيما سمعوه ورأوه وفيما انفرد بعضهم بعلمه دون بعض ، وما أجمع عليه الصحابة واختلف فيه من بعدهم فليس اختلافهم بشيء ، وفيه أن الحجة عند الاختلاف السنة وأنها حجة على من خالفها وليس من خالفها حجة عليها ، ألا ترى أن ابن عمر لم يستوحش من مفارقة أصحابه إذ كان عنده في ذلك علم من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل له ابن جريج : الجماعة أعلم به منك ، ولعلك وهمت ، كما يقول اليوم من لا علم له بل انقاد للحق إذ سمعه وهكذا يلزم الجميع انتهى .

                                                                                                          وأخرجه البخاري في الطهارة عن عبد الله بن يوسف وفي اللباس وأبو داود في الحج ومسلم عن يحيى وكلهم عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية