الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال حدثني شيخ بسوق البرم بالكوفة عن كعب بن عجرة أنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملا فأخذ بجبهتي ثم قال احلق هذا الشعر وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به قال مالك في فدية الأذى إن الأمر فيه أن أحدا لا يفتدي حتى يفعل ما يوجب عليه الفدية وإن الكفارة إنما تكون بعد وجوبها على صاحبها وأنه يضع فديته حيث ما شاء النسك أو الصيام أو الصدقة بمكة أو بغيرها من البلاد قال مالك لا يصلح للمحرم أن ينتف من شعره شيئا ولا يحلقه ولا يقصره حتى يحل إلا أن يصيبه أذى في رأسه فعليه فدية كما أمره الله تعالى ولا يصلح له أن يقلم أظفاره ولا يقتل قملة ولا يطرحها من رأسه إلى الأرض ولا من جلده ولا من ثوبه فإن طرحها المحرم من جلده أو من ثوبه فليطعم حفنة من طعام قال مالك من نتف شعرا من أنفه أو من إبطه أو اطلى جسده بنورة أو يحلق عن شجة في رأسه لضرورة أو يحلق قفاه لموضع المحاجم وهو محرم ناسيا أو جاهلا إن من فعل شيئا من ذلك فعليه الفدية في ذلك كله ولا ينبغي له أن يحلق موضع المحاجم ومن جهل فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمرة افتدى

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          956 940 - ( مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني ) كان فاضلا عالما بالقرآن عاملا ، روى عنه جماعة من الأئمة ، وإدخاله البخاري في كتاب الضعفاء رده ابن عبد البر ، كما تقدم ، وقال : قد وثقه ابن معين ، ولمالك عنه مرفوعا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها ( أنه قال : حدثني شيخ بسوق البرم ) بضم الموحدة وفتح الراء ، جمع برمة ، وهي القدر من الحجر ( بالكوفة ) قال ابن عبد البر : يقولون إن هذا الشيخ عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهذا بعيد ، لأنه أشهر في التابعين من أن يقول فيه عطاء : شيخ ، وأظن قائل ذلك لما عرف أنه كوفي وأنه الذي يروي الحديث عن كعب ظن أنه هو ، وقد روى هذا الحديث عبد الله بن معقل ، عن كعب ، وقد يكون هو الشيخ الذي ذكره عطاء ، فهو كوفي لا يبعد أن يلقاه عطاء ، وهو أشبه عندي ، انتهى .

                                                                                                          ورواية ابن معقل ، وهو بالمهملة وكسر القاف ، في الصحيحين : ( عن كعب بن عجرة أنه قال : جاءني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية لمسلم : زمن الحديبية ( وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي ) وفي رواية : قدر لي ، وفي رواية : تحت برمة لي ، فبين أن القدر برمة ، ولا تنافي بين إضافته له تارة ، ولأصحابه أخرى كما هو ظاهر ( وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملا ) زاد أحمد : حتى [ ص: 581 ] حاجبي وشاربي ( فأخذ بجبهتي ثم قال : احلق هذا الشعر ) وفي رواية لمسلم : " فدعا الحلاق فحلق رأسه " ( وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ) مدين مدين لكل إنسان ( وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم ) بقوله لي : أتجد شاة ؟ قلت : لا ( إنه ليس عندي ما أنسك به ) فلم يأمرني به ، فلا يخالف الروايات الكثيرة أنه خيره بين الثلاثة ، لأن ذلك عند وجود الشاة ، فلما أخبره أنها ليست عنده خيره بين الصيام والإطعام .

                                                                                                          وفي رواية لأبي داود : " فحلقت رأسي ، ونسكت " ، وله وللطبراني وغيرهما من طرق تدور على نافع ، قال : " فحلق فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي بقرة " ، وقد اختلف على نافع في الواسطة الذي بينه وبين كعب ، وعارضه ما هو أصح منه ، أن الذي أمر به كعب ، وفعله إنما هو شاة ، بل قال الحافظ العراقي : لفظ بقرة منكر شاذ ، ثم لا يعارض هذا ما في الصحيحين : أنه سأله : أتجد شاة ؟ قال : لا ، لاحتمال أنه وجدها بعدما أخبره : أنه لا يجدها فنسك بها .

                                                                                                          وأما ما أخرجه ابن عبد البر أنه قال : فحلقت وصمت فإما أنها رواية شاذة ، أو أنه فعل الصوم أيضا باجتهاده .

                                                                                                          وفي هذه الأحاديث أن السنة مبينة لمجمل القرآن ، لإطلاق الفدية فيه وتقييدها بالسنة ، وحرمة حلق الرأس عن المحرم والرخصة له في حلقها إذا أذاه القمل ، أو غيره من الأوجاع ، ووجوب الفدية على العامد بلا عذر ، فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى ، وأنها على التخيير عمدا أو سهوا أو لعذر .

                                                                                                          وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يتخير العامد بل يتعين الدم .

                                                                                                          ( قال مالك في فدية الأذى : إن الأمر فيه أن أحدا لا يفتدي حتى يفعل ما يوجب عليه الفدية ، وإن الكفارة إنما تكون بعد وجوبها على صاحبها ، وأنه يضع فديته حيثما شاء ) بزيادة ما ( النسك أو الصيام أو الصدقة بمكة أو بغيرها من البلاد ) زيادة إيضاح لقوله : حيث شاء ، بخلاف جزاء الصيد لقوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة ) ( سورة المائدة : الآية 95 ) والإطلاق في آية : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ( سورة البقرة : الآية 196 ) ولما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - مجملها في أحاديث كعب لم يقيد بمكة ، فدل ذلك على الإطلاق ( قال مالك : لا يصلح للمحرم ) أي يحرم عليه من الصلاح ضد الفساد ، وهو حرام ( أن ينتف من شعره شيئا ولا يحلقه ) : يزيله بموسى ، أو [ ص: 582 ] مقص أو نورة ( ولا يقصره حتى يحل إلا أن يصيبه أذى في رأسه ) كقمل ، وصداع ( فعليه فدية كما ذكره الله تعالى ) بقوله : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ( سورة البقرة : الآية 196 ) وفي الصحيحين : عن كعب بن عجرة : " في نزلت الآية خاصة ، وهي لكم عامة " ، وفي لفظ : " فأنزل الله في خاصة ، ثم كانت للمسلمين عامة " ، وفي هذا دلالة لأصح قولي مالك : إن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .

                                                                                                          ( ولا يصلح له أن يقلم أظفاره ) لأنه إزالة أذى ، أو ترفه ( ولا يقتل قملة ) واحدة ، وأولى ما زاد ( ولا يطرحها من رأسه إلى الأرض ) قيد ( ولا من جلده ) جسده ( ولا من ثوبه ، فإن طرحها المحرم من جلده ، أو من ثوبه ، فليطعم حفنة من طعام ) أي ملء يد واحدة ، كما قاله في المدونة ، وإن كانت لغة ملء اليدين .

                                                                                                          ( قال مالك : من نتف شعرا من أنفه أو من إبطه ، أو اطلى ) بشد الطاء ، افتعل ( جسده بنورة ) بضم النون ، حجر الكاس ، ثم غلبت على أخلاط تضاف إليه من زرنيخ وغيره ، يستعمل لإزالة الشعر ( أو يحلق عن شجة رأسه لضرورة ، أو يحلق قفاه لموضع المحاجم ، وهو محرم ناسيا أو جاهلا إن فعل شيئا من ذلك ، فعليه الفدية في ذلك كله ، ولا ينبغي له أن يحلق موضع المحاجم ، ومن جهل ) وفي نسخة : نسي ( فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمرة افتدى ) لأنه ألقى التفث قبل التحلل ، وقد أمر كعب بالفدية في الحلق قبل محله لضرورته ، فكيف بالجاهل والناسي .




                                                                                                          الخدمات العلمية