الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إن الذين كفروا وظلموا أنفسهم بكفرهم وقبح عملهم ، وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم وسوء سيرتهم لم يكن الله ليغفر لهم أي ليس من شأنه ولا من مقتضى سنته في خلقه أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء ; لأن الكفر والظلم يؤثران في النفس ويكيفانها بكيفية خاصة من الظلمة وفساد الفطرة ، لا يزولان بمقتضى سنته - تعالى - في النفوس البشرية وتأثير عقائدها وأعمالها فيها ، إلا بما يضاد ذلك الكفر والظلم في الدنيا من الإيمان الصحيح ، والعمل الصالح الذي يزكي النفس ويطهرها فتنشأ خلقا جديدا ، ولا سبيل إلى ذلك في يوم الحساب وما يتلوه من الجزاء المشار إليه بقوله ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم أي وليس من شأنه ولا من مقتضى سنته أن يهديهم طريقا ; أي يوصلهم إلى طريق من طرق الجزاء على عملهم إلا طريق جهنم ، وهي تلك الهاوية التي ينتهي إليها كل من يدسي نفسه بالكفر والظلم ، وهي الطريق التي اختاروها لأنفسهم ، وأوغلوا في السير فيها طول عمرهم ، كالذي يهبط الوادي يكون منتهى شوطه قرارة ذلك الوادي لا قمة الجبل الذي هو فيه ، فانتظار المغفرة ودخول الجنة لهؤلاء ، كانتظار الضد من الضد والنقيض من النقيض ، أو انتظار إبطال نظام العالم ونقض سنن الله - تعالى - وحكمته في خلق الإنسان ، هذا هو التحقيق في مثل هذا التعبير ، لا ما يزعمه القائلون بالجبر لفظا ومعنى أو معنى فقط ، ولا ما يزعمه خصومهم من كل وجه ، وقيل : إن هذه الآية نزلت في قوم معينين ، علم الله منهم أنهم لا يتوبون من كفرهم وظلمهم ، وإلا وجب تقييد عدم المغفرة والهداية لغير طريق جهنم بشرط عدم التوبة ; لأن من تاب تاب الله عليه ، كما هو ثابت بالنص والإجماع ، وما حمل قائلي هذا القول عليه إلا غفلتهم عن كون هذا هو جزاء الكافرين الظالمين في [ ص: 65 ] الآخرة ، وظنهم أن قوله تعالى : ولا ليهديهم طريقا إلخ . هو عبارة عن حرمانهم من الهداية في الدنيا ، وهذا هو الذي ساقهم إلى معتركهم في الجبر والقدر ، لعدم تطبيق مثله على مقتضى الحكمة واطراد الأسباب والسنن .

                          ولما كان مقتضى سنة الله في أولئك الكافرين الظالمين ، أنه لا يهديهم بكفرهم وظلمهم طريقا إلا طريق جهنم ، وعلم أنهم صائرون إليها ولا بد أن يصلوها ، قال : خالدين فيها أبدا أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا . قيل : إن لفظ أبدا ينفي أن يراد بالخلود طول المكث ، فيكون معنى العبارة الخلود الدائم الذي لا نهاية له ، والصواب : أن هذا معنى اصطلاحي لا لغوي ، أما معنى الخلود في اللغة فهو كما يؤخذ من مفردات الراغب : بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغير ولا فساد ، كقولهم للأثافي ( حجارة الموقد ) خوالد ، قال : ( وذلك لطول مكثها ، لا لدوام بقائها ) وفسر الخلد في " اللسان " بدوام البقاء في دار لا يخرج منها . والمراد بالسكنى الدائمة في العرف : ما يقابل السكنى المؤقتة المتحولة كسكنى البادية ، فالذين لهم بيوت في المدن يسكنونها يقال في اللغة : إنهم خالدون فيها ، قال في اللسان : وخلد بالمكان يخلد خلودا ، من باب نصر ، وأخلد : أقام ، وخلد - كضرب ونصر - خلدا وخلودا : أبطأ عنه الشيب . ومن كبر ولم يشب أو لم تسقط أسنانه يقال له المخلد ، وقال زهير :


                          لمن الديار غشيتها بالغرقد كالوحي في حجر المسيل المخلد

                          والأبد كما قال الراغب : " عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ، وتأبد الشيء : بقي أبدا ، ويعبر به عما يبقى مدة طويلة " وفي لسان العرب : " الأبد : الدهر . وفيه تساهل ، وقالوا في المثل : " طال الأبد على لبد " يضرب ذلك لكل ما قدم ، وقالوا : أبد بالمكان - من باب ضرب - أبودا : أقام به ولم يبرحه ، ولم يكن عندهم شيء بمعنى اللانهاية يدور في كلامهم .

                          وكان ذلك على الله يسيرا أي : وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره ; لأنه مقتضى حكمته وسنته ، ولا يستعصى على قدرته ، فعلى العاقل أن يتدبر ويتفكر ليعلم أنه لا ملجأ من الله ولا مفر ، ولكل نبأ مستقر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية