الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ونسوا حظا مما ذكروا به ) روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أنه قال : " نسوا الكتاب " ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال : " نسوا كتاب الله ; إذ أنزل عليهم " ، ومرادهما الحظ منه ; أي نسوا طائفة من أصل الكتاب ، وروى ابن المبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود أنه قال في تفسير الآية : " إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها ; يعلل بذلك ما أفادته الآية من نسيانهم لبعض ما ذكرهم الله به من كتابه " . وفسر النسيان بعض [ ص: 235 ] العلماء بترك العمل ، كأن هؤلاء استبعدوا نسيان شيء من أصل كتاب القوم ، وإضاعته ; لتوهمهم أنه كان متواترا ، والحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عندما أحرق البابليون هيكلهم ، وخربوا عاصمتهم ، وسبوا من أبقى عليه السيف منهم ، فلما عادت إليهم الحرية في الجملة جمعوا ما كانوا حفظوه من التوراة ، ووعوه بالعمل به ، أو ذكروه في بعض مكتوباتهم لنحو الاستشهاد به ، ونسوا الباقي . وقد حققنا هذا المعنى في تفسير الآية الثانية من آل عمران ، وكذا ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) ( 3 : 23 ، 4 : 44 ، و 51 ) ولعمري إن هذه الجملة " فنسوا حظا مما ذكروا به " وتلك الجملة " أوتوا نصيبا من الكتاب " لمن أعظم معجزات القرآن ، التي أثبتها التاريخ لنا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بعدة قرون ، ولم يكن يخطر على بال أحد من العرب في زمن البعثة وهم أميون أن اليهود فقدوا كتابهم الذي هو أصل دينهم ، ثم كتبه لهم كاتب منهم نشأ في السبي والأسر بين الوثنيين بعد عدة قرون ، فنقص منه وزاد فيه ، ولم تعرف المصادر التي جمع منها ما كتبه معرفة صحيحة ، بل كان هذا مما خفي عن علماء المسلمين عدة قرون بعد انتشار العلم فيهم .

                          أثبت الله تعالى في هذه الآية أن اليهود يحرفون كلم كتابهم عن مواضعه ، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، وفي سورتي آل عمران والنساء ( 3 : 23 ، و 4 : 44 ، و 51 ) أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وفي ( 4 : 46 ) أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ومفهوم قوله : ( أوتوا نصيبا ) أنهم نسوا نصيبا آخر ؛ وهو ما صرح به هنا ، وذهب بعض المفسرين إلى أن المنسي هو البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبيان صفاته ، وهو لا يصح ; لأنهم لو نسوها كلها لما صح قوله في علمائهم أنهم ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) ( 2 : 146 ) وهو ما صرح به وأقسم عليه من آمن منهم . وحمله بعضهم على ترك العمل به ، وهو مجاز من إطلاق اللفظ وإرادة لازمه ، والأصل في الكلام الحقيقة ، وإنما يصار إلى المجاز عند امتناع إرادتها ، ولا امتناع هنا ، ومن دلائل إرادة الحقيقة آية ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) فمعنى ما هناك وما هنا أن أهل الكتاب الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومثلهم من قبلهم فصاعدا إلى زمن السبي وخراب بيت المقدس الذي فقدت فيه التوراة ، ومن بعدهم إلى اليوم وإلى ما شاء الله - أوتوا نصيبا من الكتاب ، ونسوا نصيبا منه بسبب فقد الكتاب وعدم حفظهم له كله في الصدور ، ثم إن الذي أوتوه منه وبقي لهم ما كانوا يعملون به كما يجب ، ولا يقيمون ما يعملون به منه كما ينبغي ، بل كانوا يحرفونه عن مواضعه باللي والتأويل ، على أنه وصل إليهم محرفا لفظه ; لأنه نقل من قراطيس وصحف متفرقة ، لا ثقة بأهلها ، ولا بضبط ما فيها ، وسنذكر تتمة هذا البحث في الكلام عن نسيان النصارى حظا مما ذكروا به .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية