الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف أي فبسبب نقض أهل الكتاب لميثاقهم الذي واثقهم الله به إذ نكثوا فتله ، وأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله ، وكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم يره سواهم ، وقتلهم الأنبياء الذين بعثوا لهدايتهم ، كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وقولهم : قلوبنا غلف ، وغير ذلك من سيئاتهم التي يذكر أهم كبائرها في الآيات الآتية ; أي بسبب هذا كله فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والغضب وضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال ; لأن هذه الذنوب قد مزقت نسيج وحدتهم ، وفرقت شمل أمتهم ، وذهبت بريحهم وقوتهم ، وأفسدت جميع أخلاقهم ، فكل ما حل بهم من البلاء هو أثر ذلك النقص والكفر والعصيان .

                          فعلم من هذا أن قوله تعالى : فبما نقضهم متعلق بمحذوف يدل عليه ما عرف من حالهم في القرآن ، وفي التاريخ والعيان ، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام ، وكلمة " ما " الفاصلة بين الباء وقوله : " نقضهم " تفيد التأكيد سواء كانت مزيدة في الإعراب ، أو نكرة تامة ومجرورة بالباء ، و " نقضهم " بدل منها ، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى في الآية الآتية : [ ص: 15 ] حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( 4 : 160 ) كأنه قال : فبسبب نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم ، وقتلهم الأنبياء ، وقولهم : قلوبنا غلف ، وبكفرهم بعد ذلك بعيسى ، وافترائهم على أمه ، وتبجحهم بدعوى قتله ، وبظلمهم في غير ذلك من أعمالهم ، وأحكامهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم إلخ . فيكون قوله ، تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم إلخ بدلا من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ومثل هذا معهود في الكلام إذا طال ، ولكن اعترض هذا من جهة المعنى لا الإعراب ، وذلك أن تحريم تلك الطيبات عليهم كان قبل هذه الجرائم التي منها قتل الأنبياء ، وبهت المسيح ووالدته العذراء ، وأن تحريم بعض الطيبات عليهم عقاب قليل لا يقابل هذه الموبقات كلها . بل هو قليل على أي واحدة منها ، فهو إنما كان جزاء على ما دون هذه الموبقات من ظلمهم لأنفسهم .

                          وأما قولهم : قلوبنا غلف فذكر المفسرون فيه وجهين :

                          أحدهما : أن " غلف " جمع " أغلف " وهو الذي عليه غلاف يمنع نفوذ الشيء إليه أي إن قلوبهم لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول ; فهي لا تدركه ، وهو لا يؤثر فيها كما حكى الله - تعالى - عن المشركين وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ( 41 : 5 ) .

                          وثانيهما : أنه جمع غلاف ( ككتاب ، وكتب ) وسكنت اللام فيه كما تسكن في الكتب ، والرسل ، والمعنى أنها أوعية وغلف للعلوم والمعارف ; فهي لا تحتاج إلى شيء جديد تستفيده من الرسول ، أو من غيره .

                          وقد رد الله - تعالى - عليهم هذا الزعم بقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع . بل طبع الله عليها بكفرهم ; أي كان كفرهم الشديد وما له من الأثر القبيح في أخلاقهم وأعمالهم ، سببا للطبع على قلوبهم أي جعلها كالسكة المطبوعة ، ( الدراهم مثلا ) في قسوتها ، وتكيفها بطبعة خاصة لا تقبل غيرها من النقوش ; فهم بجمودهم على ذلك الكفر التقليدي ، ولوازمه لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار ، ولا يتأملون فيه تأمل الإخلاص والاستبصار ، وإنما النظر والتأمل من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم ، ويصل إليها اختيارهم ، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا ، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر لم يؤمن فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان ; كإيمانهم بموسى والتوراة ، وهو إيمان لا يعتد به ; لأنه على ضعفه في نفسه تفريق بين الله ورسله ، وتقدم بيان هذا ، أو إلا قليلا منهم ; كعبد الله بن سلام ، وأصحابه ، وكذلك كان .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية