الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ) المثوبة كالمقولة من ثاب الشيء يثوب ، وثاب إليه ، إذا رجع ; فهي الجزاء والثواب ، واستعماله في الجزاء الحسن أكثر ، وقيل استعماله في الجزاء السيئ تهكم ، والمعنى هل أنبئكم يا معشر المستهزئين بديننا وأذاننا بما هو شر من عملكم هذا ثوابا وجزاء عند الله تعالى ؟ وهذا السؤال يستلزم سؤالا منهم عن ذلك ، وجوابه قوله تعالى : ( من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) أي إن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء عند الله ، هو عمل من لعنه الله ، أو جزاء من لعنه الله . . . إلخ . فهو على حد قوله تعالى : ( ولكن البر من اتقى ) ( 2 : 189 ) وقوله : ( ولكن البر من آمن بالله ) ( 2 : 177 ) وفي هذا التعبير وجه آخر ، وهو : هل أنبئكم بشر من أهل ذلك العمل مثوبة عند الله ؟ هم الذين لعنهم الله . . . إلخ . كما تقول في تفسير الآية الأخرى : ولكن ذا البر من اتقى .

                          انتقل بهذه الآية من تبكيت اليهود وإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما تقدم ، إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم ، بما فيه من التذكير بسوء حالهم مع أنبيائهم ، وما كان من جزائهم على فسقهم ، وتمردهم بأشد ما جازى الله تعالى به الفاسقين الظالمين لأنفسهم ، وهو اللعن والغضب ، والمسخ الصوري أو المعنوي ، وعبادة الطاغوت ، وقد عظم شأن هذا المعنى بتقديم الاستفهام عليه ، المشوق إلى الأمر العظيم المنبأ عنه .

                          أما لعن الله فهو مبين مع سببه في عدة آيات من سورتي البقرة والنساء ، وقد تقدم تفسيره ، وكذا هذه السورة ( المائدة ) فسيأتي في غير هذه الآية ، خبر لعنهم ، ومنها أنهم لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام . وبعض ذلك اللعن مطلق ، وبعضه مقيد بأعمال لهم ; كنقض الميثاق . والفرية على مريم العذراء ، وترك التناهي عن المنكر .

                          [ ص: 371 ] ومنه لعن أصحاب السبت ; أي الذين اعتدوا فيه . وقد ذكر في سورة البقرة مجملا ، وسيأتي في سورة الأعراف مفصلا .

                          والغضب الإلهي يلزم اللعنة وتلزمه ، بل اللعنة عبارة عن منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه ، وتقدم تفسير كل منهما .

                          وأما جعله منهم القردة والخنازير فتقدم في سورة البقرة ، وسيأتي في سورة الأعراف . قال تعالى في الأول : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ( 2 : 65 ) وقال بعد بيان اعتدائهم في السبت من الثانية : ( فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ( 7 : 166 ) وجمهور المفسرين على أن معنى ذلك أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير حقيقة ، وانقرضوا ; لأن الممسوخ لا يكون له نسل كما ورد . وفي الدر المنثور " أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : ( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) قال : مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا " ; فالمراد على هذا أنهم صاروا كالقردة في نزواتها ، والخنازير في اتباع شهواتها ، وتقدم في تفسير آية البقرة ترجيح هذا القول من جهة المعنى ، بعد نقله عن مجاهد من رواية ابن جرير . قال : " مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا " ولا عبرة برد ابن جرير قول مجاهد هذا ، وترجيحه القول الآخر فذلك اجتهاده ، وكثيرا ما يرد به قول ابن عباس والجمهور . وليس قول مجاهد بالبعيد من استعمال اللغة ; فمن فصيح اللغة أن تقول : ربى فلان الملك قومه أو جيشه على الشجاعة والغزو ، فجعل منهم الأسود الضواري ، وكان له منهم الذئاب المفترسة .

                          وأما قوله تعالى : ( وعبد الطاغوت ) ففيه قراءتان سبعيتان متواترتان ، وعدة قراءات شاذة ، قرأ الجمهور " عبد " بالتحريك على أنه فعل ماض من العبادة ، و " الطاغوت " بالنصب مفعوله ، والجملة على هذا معطوفة على قوله : ( لعنه الله ) أي هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ هم من لعنه الله ، وغضب عليه . . . إلخ ، ومن عبد الطاغوت . وقرأ حمزة ( وعبد ) بفتح العين والدال وضم الباء ، وهو لغة في ( عبد ) بوزن ( بحر ) واحد العبيد ، وقرأ ( الطاغوت ) بالجر بالإضافة ، وهو على هذا معطوف على ( القردة ) أي وجعل منهم عبيد الطاغوت ، بناء على أن عبدا يراد به الجنس لا الواحد ، كما تقول : كاتب السلطان يشترط فيه كذا وكذا ، وقد تقدم أن الطاغوت اسم فيه معنى المبالغة من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد المشروع والمعروف إلى الباطل والمنكر ; فهو يشمل كل مصادر طغيانهم ، وخصه بعض المفسرين بعبادة العجل ، ولا دليل على التخصيص .

                          ( أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) أي أولئك الموصوفون بما ذكر من المخازي [ ص: 372 ] والشنائع شر مكانا ; إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار ، أو المراد بإثبات الشر لمكانهم إثباته لأنفسهم من باب الكناية ، الذي هو كإثبات الشيء بدليله ، وأضل عن قصد طريق الحق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ، ومن كان هذا شأنه لا يحمله على الاستهزاء بدين المسلمين وصلاتهم وأذانهم واتخاذها هزؤا ولعبا إلا الجهل وعمى القلب .

                          ( وإذا جاءوكم قالوا آمنا ) الكلام في منافقي اليهود الذين كانوا في المدينة وجوارها ; أي ذلك شأنهم في حال البعد عنكم ، وإذا جاءوكم قالوا للرسول ولكم : إننا آمنا بالرسول ، وما أنزل عليه ( وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) أي والحال الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم متلبسين بالكفر ، وهم أنفسهم قد خرجوا متلبسين به ; فحالهم عند خروجهم هي حالهم عند دخولهم ، لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول ، وما نزل من الحق ، ولكنهم يخادعونكم ، كما قال في آية البقرة : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ( 2 : 76 ) الآية ( والله أعلم بما كانوا يكتمون ) عند دخولهم من قصد تسقط الأخبار والتوسل إليه بالنفاق والخداع ، وعند خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم ، كما تقدم قريبا في تفسير ( سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ) ونكتة قوله : ( وهم قد خرجوا به ) هي تأكيد كون حالهم في وقت الخروج كحالهم في وقت الدخول ، وإنما احتاج هذا للتأكيد لمجيئه على خلاف الأصل ; لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يسمع من العلم والحكمة ويرى من الفضائل ما يكبر في صدره ، ويؤثر في قلبه ، حتى إذا كان سيئ الظن رجع عن سوء ظنه ، وأما سيئ القصد فلا علاج له ، وقد كان يجيئه الرجل يريد قتله ، فإذا رآه وسمع كلامه آمن به وأحبه ، وهذا هو المعقول الذي أيدته التجربة ، وإنما شذ هؤلاء وأمثالهم ; لأن سوء نيتهم وفساد طويتهم قد صرفا قلوبهم عن التذكر والاعتبار ، ووجها كل قواهم إلى الكيد والخداع والتجسس وما يراد به ، فلم يبق لهم من الاستعداد ما يعقلون به تلك الآيات ، ويفهمون مغزى الحكم والآداب .

                          ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ( 33 : 4 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية