الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ما يرد على عقيدة الصلب ) ( 1 ) لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما ، وفي كل صنعه حكيما ; لأنها تستلزم الجهل والبداء على البارئ ، عز وجل ، كأنه حين خلق آدم ما كان يعلم ما يكون عليه أمره ، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه ، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته ، وواقعا في ورطة التناقض بينهما ، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم ألا يتفق مع العقل ، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب ، ويقول : آمنت به . وإن لم يدركه ولم تذعن له نفسه . ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية ( سفر التكوين ) هذه الجملة ( 6 : 6 فندم الرب أنه عمل الإنسان في الأرض ، وتأسف في قلبه ) تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا .

                          2 - يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم ما يحيله كل عقل مستقل ، من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبة الذرة إليها وإلى سمواتها التي ترى منها ، ثم يكون بشرا يأكل ويشرب ويتعب ، ويعتريه غير ذلك مما يعتري البشر ، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة ، فيصلبوه مع اللصوص ، ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله ( تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) .

                          3 - تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكر فيه ألوفا من السنين ، فلم يتم له ذلك الشيء ، ذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب ، فإنهم يقولون : إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة ، وهم لم يؤمنوا بها ، لنا [ ص: 23 ] أن نقول : إنه لم يؤمن بها أحد قط ; لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء ، والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك ، والذين يقولون : إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ؛ تقليدا لمن لقنهم ذلك ، فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا ، نقول : إن أكثر البشر لا يقولونه . بل يردونه بالدلائل العقلية ، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية ، من دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية ، ومنهم من لم يعلموا بهذه القصة ، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى ، فإذا عذبهم الله - تعالى - في الآخرة ، ولم يدخلهم ملكوته ، كما تدعي النصارى ، لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب ، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة ؟ !

                          4 - يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق ( تعالى وتقدس ) عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته ، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح ; لأنه عذبه من حيث هو بشر ، وهو لا يستحق العذاب لأنه لم يذنب قط ، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب ، على ما زعموا ، لا يصدر من عادل ، ولا من رحيم بالأحرى ، فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم ؟ أو أن يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين ، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا ؟ !

                          5 - إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة أو القصة ينجو من عذاب الآخرة ، كيفما كانت أخلاقه وأعماله ، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين ، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ، ويفسد في الأرض ، ويهلك الحرث والنسل ، من أهل الملكوت الأعلى ، لا يعذب على شروره وخطيئاته ، ولا يجازى عليها بشيء ، فله أن يفعل في هذه الدنيا ما شاء هواه ، وهو آمن من عذاب الله ، وناهيك بهذا مفسدا للبشر ، وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبيين ، فما هي مزية هذه العقيدة ؟ وإذا كان له امتياز عند الله - تعالى - في نفس الجزاء ، فأين العدل الإلهي ؟

                          6 - ما رأينا أحدا من العقلاء ولا من علماء الشرائع والقوانين ، يقول : إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه ، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه - ينافي العدل والكمال ، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل ، ونرى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة ، يصفونه بالعفو ، ويقولون : إنه أهل للمغفرة ، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية