الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 315 ] وقد اختلف العلماء في القدر الذي يوجب الحد من السرقة ، فروي عن الحسن البصري وداود الظاهري ، أنه يثبت القطع بالقليل والكثير ; عملا بإطلاق الآية وحديث " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " رواه الشيخان من طريق الأعمش عن أبي هريرة ، وعليه الخوارج . وذهب جمهور السلف والخلف ، ومنهم الخلفاء الأربعة ، إلى أن القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار ( أي ربع مثقال من الذهب ) أو ثلاثة دراهم من الفضة ، والشافعي جعل ربع الدينار هو الأصل في تقويم الأشياء المسروقة ; لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها ، وروي عن مالك أن كلا من الذهب والفضة أصل معتبر في نفسه ، وفي رواية أخرى - قيل إنها المشهور عنه - أن التقويم بدراهم الفضة أصل معتبر في نفسه ، وقال بعض العلماء : إن العروض تقوم بما كان غالبا في نقود أهل البلد ، فيختلف باختلاف البلاد ، والأصل في هذا المذهب وفي هذا الخلاف في التقدير ، حديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، وفي رواية مرفوعا " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ، فصاعدا " رواه أحمد ومسلم وابن ماجه ، وفي رواية أخرى للنسائي مرفوعا " لا تقطع اليد فيما دون ثمن المجن ، قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار " ، ويؤيده حديث ابن عمر في الصحيحين والسنن الثلاث " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وفي رواية " قيمته ثلاثة دراهم " وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأن الأعمش راويه فسر البيضة ببيضة الحديد التي تلبس للحرب ، وهي كالمجن ( الترس ) وقد يكون ثمنها أكثر من ثمنه ، ومذهب الحنفية أن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم فأكثر ، ولا قطع في أقل منها ، واحتجوا برواية عند البيهقي والطحاوي والنسائي عن ابن عباس وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم ، ورجحوها على حديث الصحيحين والسنن بإدخالها في عموم درء الحدود بالشبهات ، ولكن في إسنادها محمد بن إسحاق ، وقد عنعن ، ولا يحتج بحديثه معنعنا ، فكيف يعارض حديث الصحيحين ، بل الجماعة كلهم ؟ وهنالك مذاهب أخرى كثيرة في قدر النصاب ، لا نذكرها لضعف أدلتها ، بل بعضها لا يعرف له دليل .

                          ووردت أحاديث في أن الثمر والكثر ( وهو بالتحريك : جمار النخل ) لا قطع فيها ، وأما الثمر بعد إحرازه فكغيره من المال ، وقيل : لا قطع فيه ، واشترط الجمهور في القطع أن يسرق الشيء من حرز مثله ، فإن لم يكن محرزا محفوظا فلا قطع ، وتفصيل ذلك في كتب الحديث وشروحها .

                          وتثبت السرقة بالإقرار والبينة ، ويسقط الحد بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام ( الحاكم ) وكذا بعده عند بعض العلماء ، وهو مخالف للأحاديث الصريحة ، وورد [ ص: 316 ] النهي عن إقامة الحد في الغزو ، وتفصيل ذلك في محله . وأما التوبة فقد بين الله حكمها في قوله : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) أي فمن تاب من السراق ورجع عن السرقة وغيرها من المعاصي رجوع ندم وعزم على الاستقامة ، من بعد ظلمه لنفسه بامتهانها وسفهها ، وللناس بالاعتداء على أموالهم ، وأصلح نفسه وزكاها بالصدقة المضادة للسرقة ، وبغير ذلك من أعمال البر - فإن الله تعالى يقبل توبته ، ويرجع إليه بالرضاء والإثابة ، ويغفر له ويرحمه ، فإن ذلك من مقتضى اسمه الغفور واسمه الرحيم .

                          وهل يسقط الحد عن التائب ؟ قال الجمهور : لا يسقط عنه مطلقا ، وقال بعض السلف : بل يسقط عنه ، وإذا قيست السرقة على الحرابة والإفساد فالقول بسقوط الحد ظاهر إن تاب قبل رفع أمره إلى الحاكم ، ولكن لا يسقط حق المسروق منه ، بل لا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق إليه بعينه إن بقي ، وإلا دفع قيمته إن قدر ، ولا يظهر لنا وجه لما قاله بعض الفقهاء من عدم الجمع بين الحد وغرامة المال المسروق ; فإن الحد حق الله تعالى لمصلحة عباده عامة ، والمال حق من سرق منه خاصة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية