الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                288 289 [ ص: 457 ] ص: قالوا: ففي هذه الآثار أنها كانت تفرك المني من ثوب الصلاة، كما تفركه من ثوب النوم.

                                                قال أبو جعفر: : وليس في هذا عندنا دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون كانت تفعل به هذا، فيطهر بذلك الثوب، والمني في نفسه نجس; كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى.

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا الأوزاعي ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه أو بنعله; فطهورهما التراب". .

                                                قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روينا في المني، يحتمل أن يكون كان حكمه عندهم كذلك، يطهر الثوب بإزالتهم إياه عنه بالفرك، وهو في نفسه نجس ، كما كان الأذى يطهر النعل بإزالتهم إياه عنها وهو في نفسه نجس.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قالت أهل المقالة الأولى: "ففي هذه الآثار" أراد بها الأحاديث التي رواها علقمة والأسود وهمام ومجاهد والقاسم بن محمد عن عائشة : "أنها كانت تفرك المني من ثوب الصلاة كما كانت تفركه من ثوب النوم" فهذا يدل على طهارة المني، وأجاب عن ذلك بقوله: "وليس في هذا" أي فيما قلتم ... إلى آخره، وهو ظاهر.

                                                قوله: "أن يكون كانت" أي عائشة - رضي الله عنها - والضمير في "أن يكون" يرجع إلى الشأن أو الأمر المقدر، وهو اسمه.

                                                قلت: "كانت تفعل به" في محل النصب، خبره.

                                                قوله: "والمني نجس في نفسه" جملة اسمية وقعت حالا.

                                                ثم الحديث المذكور صحيح، ومحمد بن كثير الصنعاني وإن كانوا تكلموا فيه ولكن ابن حبان وثقه.

                                                [ ص: 458 ] وروى الحديث في "صحيحه": بغير هذا الإسناد عن أبي سعيد الخدري .

                                                والحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

                                                وأبو داود : رواه بهذا الإسناد حيث قال: ثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثني محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب" .

                                                وقال النووي في "الخلاصة": رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان هذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة.

                                                ورواه أبو داود أيضا من حديث عائشة - رضي الله عنها -: ثنا محمود بن خالد ، ثنا محمد يعني ابن عائذ ، نا يحيى بن حمزة ، عن الأوزاعي ، عن محمد بن الوليد ، قال: أخبرني أيضا سعيد بن أبي سعيد ، عن القعقاع بن حكيم ، عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - عليه السلام - معناه، أي معنى حديث أبي هريرة .

                                                وقال المنذري حديث عائشة حديث حسن، غير أنه لم يذكر لفظه.

                                                قلت: رواه ابن عدي في "الكامل": عن عبد الله بن زياد بن سمعان القرشي ، عن سعيد المقبري ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سألت رسول الله - عليه السلام -[عن] الرجل يطأ بنعليه في الأذى، قال: التراب لهما طهور" .

                                                فإن قلت: قال الدارقطني : مدار الحديث على ابن سمعان وهو ضعيف. قال ابن الجوزي : قال مالك : هو كذاب. وقال أحمد : متروك الحديث.

                                                [ ص: 459 ] قلت: ذكر صاحب "الكمال": قال أبو زرعة ، حدثني أحمد بن صالح ، قال: قلت لابن وهب : ما كان يقول مالك في ابن سمعان ؟ قال: لا يقبل قول بعضهم في بعض. وروى له الترمذي مقرونا بيونس بن يزيد

                                                ورواه أيضا أبو داود : من حديث أبي سعيد الخدري : ثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن أبي نعامة السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال: "بينما رسول الله - عليه السلام - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟! قالوا: رأيناك ألقيت نعلك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - عليه السلام -: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا. وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى، فليمسحه، وليصل فيهما" .

                                                وأخرجه ابن حبان أيضا نحوه.

                                                قوله: "الأذى" أراد به النجاسة.

                                                و"النعل" الحذاء مؤنثة، وتصغيرها نعيلة.

                                                وقال ابن الأثير : وهي التي تلبس في المشي وتسمى الآن تاسومة.

                                                واستدلت أصحابنا بهذه الأحاديث أن الخف ونحوه إذا أصابته النجاسة التي لها جرم كالروث، والعذرة، والدم، والمني، فجفت، فدلكه بالأرض جاز ; خلافا لمحمد ، وكان الأوزاعي يستعمل هذه الأحاديث على ظاهرها، وقال: يجزئه أن يمسح القذر من نعله أو خفه بالتراب، ويصلي فيه. وروي مثله عن عروة بن الزبير ، وكان النخعي يمسح النعل والخف يكون فيه السرقين عند باب المسجد ويصلي بالقوم، وقال أبو ثور في الخف والنعل إذا مسحهما بالأرض حتى لا يجد له ريحا ولا أثرا: رجوت أن يجزئه.

                                                [ ص: 460 ] وقال الشافعي : لا تطهر النجاسات إلا بالماء، سواء كانت في ثوب أو حذاء. وبه قال مالك وأحمد وزفر ، والحديث حجة عليهم، ثم بإطلاق الحديث أخذ أبو يوسف، حتى يطهر الخف أو النعل عنده بالمسح، سواء كان النجس رطبا أو يابسا.

                                                وقال أبو حنيفة : المراد بالأذى: النجاسة العينية اليابسة; لأن الرطبة تزداد بالمسح بالأرض انتشارا وتلوثا.

                                                فإن قيل: الحديث مطلق، فلم قيده أبو حنيفة هذا القيد؟

                                                قلت: التي لا جرم لها خرجت بالتعليل، وهو قوله: "فطهورهما التراب" في رواية أبي جعفر ، وفي رواية أبي داود "قال: التراب طهور" أي يزيل نجاسته، ونحن نعلم يقينا أن النعل والخف إذا تشرب البول أو الخمر لا يزيله المسح، ولا يخرجه من أجزاء الجلد، فقال: إطلاق الحديث مصروف إلى الأذى الذي يقبل الإزالة بالمسح، حتى إن البول أو الخمر لو استجسد بالرمل أو التراب فجف; فإنه يطهر أيضا بالمسح -على ما قال شمس الأئمة وهو الصحيح- فلا فرق أن يكون جرم النجاسة منها أو من غيرها، هكذا ذكره الفقيه أبو جعفر ، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل عن أبي حنيفة ، وعن أبي يوسف مثل ذلك، إلا أنه لم يشترط الخفاف.

                                                وذكر في "الجامع الصغير" في النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف والنعل وحكه أو حته بعدما تبين أنه يطهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وذكر في الأصل: إذا مسحهما بالتراب تطهر.

                                                قال مشايخنا: لولا المذكور في "الجامع الصغير" لكنا نقول لا يطهران ما لم يمسحهما بالتراب; لأن المسح بالتراب له أثر في باب الطهارة، فالمذكور في "الجامع الصغير" أن الحك له أثر. وقال القدوري في شرحه: ومعنى قول أبي حنيفة في هذه المسألة: إن الخف والنعل يطهران في حق جواز الصلاة معه، [ ص: 461 ] أما لو أصابه الماء بعد ذلك يعود نجسا -على إحدى الروايتين- وأصل المسألة الأرض إذا ذهب أثر النجاسة عنها ثم أصابها الماء فإنه يعود حكم النجاسة على إحدى الروايتين. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية