الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                762 763 ص: وقالوا: هذا الحديث غلط؛ لأنه حديث مختصر، اختصره أبو إسحاق ، من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه، وذلك أن فهدا حدثنا، قال: أنا أبو غسان ، قال: أنا زهير ، قال: نا أبو إسحاق ، قال: أتيت الأسود بن يزيد، وكان لي أخا وصديقا، فقلت له: يا أبا عمر، حدثني ما حدثتك عائشة أم المؤمنين عن صلاة النبي -عليه السلام-، فقال: قالت: " كان النبي -عليه السلام- ينام أول الليل ويحيي آخره، ثم إن كانت له

                                                [ ص: 537 ] حاجة قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء الأول وثب - وما قالت: قام - فأفاض عليه الماء - وما قالت: اغتسل وأنا أعلم ما تريد - وإن نام جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة".
                                                .

                                                فهذا الأسود بن يزيد قد بان في حديثه لما ذكر - بطوله - أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وأما قولها: "فإن كانت له حاجة قضاها، ثم نام قبل أن يمس ماء" فيحتمل أن يكون ذلك على الماء الذي يغتسل به لا على الوضوء.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قال الجماعة الآخرون - في جواب الحديث الذي احتج به أهل المقالة الأولى -: هذا الحديث غلط؛ لأن أبا إسحاق عمرو بن عبد الله اختصر هذا الحديث من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه، وقال الترمذي ، وأبو علي الطوسي: روى غير واحد عن الأسود ، عن عائشة: "أنه كان يتوضأ قبل أن ينام"، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق، قال: وكانوا يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق .

                                                وبين الطحاوي ذلك بقوله: "وذلك أن فهدا ... " إلى آخره، فإن هذا الحديث لما ذكر بطوله من غير اختصار ظهر أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب يتوضأ وضوء الصلاة، فيكون معنى قولها في الحديث المختصر: "ثم نام قبل أن يمس ماء" أي الماء الذي يغتسل به لا الماء الذي يتوضأ به.

                                                واعلم أن الأئمة اختلفوا في حديث أبي إسحاق عن الأسود، فصححه قوم، وضعفه آخرون، فقال أبو داود: حدثنا الحسين الواسطي: سمعت يزيد بن هارون يقول: هذا الحديث وهم، يعني حديث أبي إسحاق، وفي رواية ابن العبد عنه: ليس بالصحيح، وفي موضع آخر: وهم أبو إسحاق في هذا الحديث.

                                                وفي كتاب "العلل" لأبي حاتم: قال شعبة: سمعت حديث أبي إسحاق أن النبي -عليه السلام- كان ينام جنبا، ولكني أتقيه.

                                                [ ص: 538 ] وقال مهنى: سألت أبا عبد الله عنه، فقال: ليس صحيحا. قلت: ثم قال: لأن شعبة روى عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة: "أن النبي -عليه السلام- كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة". قلت: من قبل من جاء هذا الاختلاف؟ قال: من قبل أبي إسحاق، قال مهنى: وسمعت يزيد بن هارون يقول: [جرمز] أبو إسحاق في هذا الحديث.

                                                قال: وسألت أحمد بن صالح عن هذا الحديث فقال: لا يحل أن يروى.

                                                قال أبو عبد الله: الحكم يرويه مثل قصة أبي إسحاق ليس عن الأسود "الجنب يأكل".

                                                وفي كتاب الأثرم: لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم وحده لكان يكفي وإبراهيم كان أثبت وأعلم بالأسود، ثم وافق إبراهيم عبد الرحمن، ووافقهما أبو سلمة ، وعروة عن عائشة، ثم وافق ما صح من ذلك عن عائشة رواية عمر، وما روي عن أبي سعيد ، وعمار فتبين أن حديث أبي إسحاق إنما هو وهم، قيل: روى هشيم ، عن عبد الله ، عن عطاء ، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-، مثل ما رواه أبو إسحاق عن الأسود، قال: ورواية عطاء عن عائشة مما لا يحتج به إلا أن يقول: سمعت، ولو قال في هذا: سمعت كانت تلك الأحاديث أقوى، ولقائل أن يقول: قد صرح جماعة من العلماء بسماعه من عائشة، وخرج له الشيخان في صحيحها أحاديث صرح في بعضها بسماعه منها، ولم يرمه أحد بالتدليس فيما علمنا حتى يتوقف في روايته إذا لم يبين سماعه، فلا يقدح هذا في حديثه، ويكون سنده على هذا صحيحا، لاسيما مع ما يذكر له من الشواهد.

                                                وفي "المغني" لابن قدامة: قال أحمد: خالف أبو إسحاق الناس فلم يقل أحد : عن الأسود مثل ما قال، فلو أحاله على غير الأسود .

                                                [ ص: 539 ] وقال مسلم في كتاب: "التمييز": ذكر الأحاديث التي نقلت على الغلط في متونها، ثنا أحمد بن يونس، نا زهير، نا أبو إسحاق ... فذكره، قال: فهذه الرواية عن أبي إسحاق [خاطئة]، وقد جاء النخعي وعبد الرحمن بخلاف ذلك.

                                                فيه نظر، من حيث أنه روى في "صحيحه" عن يحيى بن يحيى وأحمد بن يونس، قالا: ثنا زهير فذكر حديث أبي إسحاق دون قوله: "قبل أن يمس ماء"، وقال ابن ماجه عقب روايته هذا الحديث: قال سفيان: ذكرت الحديث - يعني هذا - يوما فقال لي إسماعيل: شد هذا الحديث يا فتى بشيء.

                                                وأما المصححون فقد قال الدارقطني: يشبه أن يكون الخبران صحيحين؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ربما قدم الغسل، وربما أخره كما حكى ذلك غضيف ، وعبد الله بن أبي قيس، وغيرهما عن عائشة، وأن الأسود حفظ ذلك عنها فحفظ أبو إسحاق عنه تأخير الوضوء والغسل، وحفظ إبراهيم وعبد الرحمن تقديم الوضوء على الغسل.

                                                وقال البيهقي: طعن الحفاظ في هذه اللفظة، يعني: "قبل أن يمس ماء" وتوهموها مأخوذة عن غير الأسود، وأن أبا إسحاق ربما دلس، فرأوها من تدليساته، واحتجوا على ذلك برواية النخعي وعبد الرحمن بن الأسود بخلاف رواية أبي إسحاق، قال أبو بكر: وحديث أبي إسحاق صحيح من جهة الرواية؛ وذلك أنه بين فيه سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، والمدلس إذا بين سماعه ممن روى عنه، وكان ثقة فلا وجه لرده، ووجه الجمع بين الروايتين على وجه يحتمل، وقد جمع بينهما أبو العباس بن سريج فأحسن الجمع، وسئل عنه، وعن حديث عمر: "ينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ"، فقال: الحكم لهما جميعا؛ أما حديث عائشة فإنما أرادت أنه كان لا يمس ماء للغسل، وأما حديث عمر: "أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا [ ص: 540 ] توضأ أحدكم فليرقد" مفسر ذكر فيه الوضوء، وبه نأخذ. انتهى.

                                                ولو حمل على الاستحباب، والفعل على الجواز لكان حسنا إذ الفعل لا يدل على الوجوب بمجرده، ويمكن أن يكون الأمران جميعا وقعا، فالفعل لبيان الاستحباب، والترك لبيان الجواز، وقد أشار إلى هذا ابن قتيبة في كتاب "مختلف الحديث"، ولما ذكره ابن حزم مصححا له من حديث سفيان عن أبي إسحاق قال: هذا لفظ يدل على مداومته -عليه السلام- لذلك، وهي أحدث الناس عهدا بمبيته ونومه، جنبا وطاهرا.

                                                فإن قيل: إن هذا الحديث أخطأ فيه سفيان؛ لأن زهيرا خالفه.

                                                قلنا: بل أخطأ بلا شك من خطأ سفيان بلا دليل، وسفيان أحفظ من زهير بلا شك. انتهى كلامه.

                                                وفيه نظر من حيث أن زهيرا رواه كما رواه سفيان عن أبي إسحاق فيما ذكره مسلم في "التمييز"، ومن حيث أن سفيان لم يتفرد بل قد تابعه غير واحد، منهم شعبة بن الحجاج - ذكره الترمذي - وأبو حنيفة ، وموسى بن عقبة ، وإسماعيل بن أبي خالد - عند الطحاوي - وسليمان بن مهران ، وأبو الأحوص - عند ابن ماجه - وحمزة الزيات - ذكره الطبراني في "الأوسط" - ثم قالوا: إنا وجدنا لحديث أبي إسحاق شواهد ومتابعين، فممن تابعه: عطاء ، والقاسم ، وكريب، فيما ذكره أبو إسحاق الحربي في كتاب "العلل"، قال: وأحسن الوجوه في ذلك - إن صح حديث أبي إسحاق فيما رواه ووافقه هؤلاء -: أن تكون عائشة أخبرت الأسود أنه كان ربما توضأ، وربما أخر الوضوء والغسل حتى يصبح، فأخبر الأسود إبراهيم أنه كان يتوضأ، وأخبر أبا إسحاق أنه كان يؤخر الغسل، وقد حكى مثل ذلك غضيف ، وعبد الله بن أبي قيس ، ويحيى بن يعمر الصنابحي ، عن عائشة، وهذا أحسن وجوهه، قال: ولم يزل المتفقهة من أصحاب الحديث تكلم في حديث أبي إسحاق، يقولون: إنه حكى عن عائشة ما خالف ما حكاه إبراهيم وعبد الرحمن، وقد وافق إبراهيم

                                                [ ص: 541 ] وعبد الرحمن على روايتهما: أبو سلمة ، وعروة ، وأبو عمر ، وذكوان، وقوى هذا القول رواية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما سأل، وأبي سعيد ، وعمار ، وابن عباس ، وجابر، وأم سلمة. انتهى كلامه.

                                                وفيه نظر من حيث أن ابن عباس وعمارا وأم سلمة حديثهم موافق لما رواه أبو إسحاق .

                                                أما حديث [أم] سلمة فرواه أحمد بسند جيد "كان النبي -عليه السلام- يجنب، ثم ينام، ثم ينتبه، ثم ينام".

                                                وحديث ابن عباس "خرج النبي -عليه السلام- من الخلاء فأتى بطعام فقالوا: ألا نأتيك بطهر، فقال: أأصلي فأتطهر؟! ثم تناول عرقا فأكل ولم يمس ماء".

                                                قال أبو عمر: صحيح، وفيه دلالة أن الوضوء لا يكون إلا لمن أراد الصلاة.

                                                وحديث عمار صححه الترمذي: "أن النبي -عليه السلام- رخص للجنب إذا أكل أو شرب أو نام أن يتوضأ".

                                                قال أبو عمر: احتج به أهل الكوفة على أن الجنب لا بأس أن ينام قبل أن يتوضأ، قالوا: معناه: أي لا يتوضأ؛ لأنه في ذلك وردت الرخصة.

                                                وقال ابن أبي شيبة: ثنا شريك ، عن إبراهيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: "إذا جامع الرجل ثم أراد أن يعود فلا بأس أن يؤخر الغسل".

                                                وقال ابن الحصار في كتابه "تقريب المدارك على موطأ مالك": رواه عن

                                                [ ص: 542 ] أبي إسحاق أئمة عدول، وهذه رخصة، ورفق من الله تعالى لا ينبغي أن يطرح مثل هذا لأجل انفراد راوية العدل برواية لا تعارض رواية من روى عن الأسود ذكر الوضوء، إذ قد يصح أن يفعل الأمرين في وقتين، والله أعلم.

                                                ثم رجال حديث فهد رجال الصحيح، وأبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري ، وزهير هو ابن معاوية بن [حديج] ، وأبو إسحاق عمرو .

                                                وأخرجه مسلم: ثنا أحمد بن يونس، قال: نا زهير، قال: نا أبو إسحاق .

                                                وحدثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا أبو خثيمة ، عن أبي إسحاق، قال: سألت الأسود بن يزيد عما حدثته عائشة عن صلاة رسول الله -عليه السلام-، قالت: "كان ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول قالت: وثب - ولا والله ما قالت: قام - فأفاض عليه الماء - ولا والله ما قالت: اغتسل - وأنا أعلم ما تريد - وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى" وليس في روايته: "قبل أن يمس ماء".

                                                ورواية البيهقي نحو رواية الطحاوي، وقال الذهبي: إنما ترك مسلم لمس الماء لأن الحفاظ طعنوا في هذه اللفظة، وتوهموها مأخوذة من غير الأسود، وأن أبا إسحاق ربما دلس فرأوها من تدليساته.

                                                قوله: "كان ينام أول الليل، ويحيي آخره" لما جاء في إحياء آخر الليل من الآثار والفضل، وأنه أسمع وأقرب للإجابة، ثم نومه بعد ذلك ليستريح من تعب القيام، وينشط لصلاة الصبح، والنوم بعد القيام آخر الليل مستحسن مذهب لكلل السهر، وذبول الجسم، وصفرة اللون بسببه، بخلاف إيصال السهر بالصباح، وقد يكون

                                                [ ص: 543 ] فعل النبي -عليه السلام- هذا في الليالي الطوال.

                                                قوله: "ثم إن كانت له حاجة" أرادت عائشة بهذا الكلام الجماع، ولكنها ذكرته بالكناية للأدب.

                                                قوله: "ثم ينام قبل أن يمس ماء" أرادت به الماء الذي يغتسل به لا الماء الذي يتوضأ.

                                                فإن قيل: من أين قلت: إنها أرادت به الماء الذي يغتسل به؟ ولم لا يجوز أن تكون أرادت الماء الذي يتوضأ به؟

                                                قلت: قالوا هذا حتى لا تتضاد الآثار؛ لأنه قد أخبر في هذا الحديث نفسه أنه إذا كان جنبا توضأ ثم نام، وكذلك الأحاديث الصحاح عن عائشة وغيرها أنه كان لا ينام إذا كان جنبا حتى يتوضأ وضوءه للصلاة.

                                                فإن قيل: كيف يجوز النوم على الجنابة وقد جاء في حديث علي -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب".

                                                أخرجه أبو داود ، والنسائي، فما وجه التوفيق بين الحديثين؟.

                                                قلت: المراد بالجنب الذي لا تدخل الملائكة بيتا هو فيه هو الذي يجنب فلا يغتسل، ويتهاون به، ويتخذه عادة، وأما الجنب الذي لا يتخذ هذا عادة، ولا يترك الاغتسال إلى أن تفوته الصلاة لا يضر دخول الملائكة البيت؛ فإنه -عليه السلام- كان ينام وهو جنب، وقال الخطابي: قوله: ولا جنب، ولا جبت بكسر الجيم وسكون الباء الموحدة، وبالتاء المثناة من فوق، وجنب تصحيف.

                                                فإن كان هذا صحيحا فلا اعتراض حينئذ.

                                                وقال الصغاني في "العباب": الجبت كلمة تقع على الصنم، والكاهن،

                                                [ ص: 544 ] والساحر، ونحو ذلك. وقال ابن عرفة : كل ما عبد من دون الله فهو جبت، وقيل: الجبت والطاغوت: الكهنة والشياطين.

                                                وقال سعيد بن جبير: هي كلمة حبشية، وليست من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء.

                                                فإن قيل: فلم تمتنع الملائكة من البيت الذي فيه الجنب؟

                                                قلت: لكون الجنب بعيدا عن التلاوة والعبادة، وهو متصف بالنجاسة الحكمية، والملائكة يكرهون ذلك، وأيضا المراد منه الملائكة غير الحفظة؛ لأن الحفظة لا يفارقون بني آدم جنبا وغيره، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية