الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                276 ص: وقالوا: ولا حجة لكم في هذه الآثار; لأنها إنما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها، ولم تأت في ثياب يصلي فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها ، ولا تجوز الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المني كذلك، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا لو كنا نقول: لا يصلح النوم في الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك، ونوافق ما رويتم عن النبي - عليه السلام - في ذلك، ونقول من بعد: لا تصلح الصلاة في ذلك، فلم نخالف شيئا مما روي في ذلك عن النبي عليه السلام.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قال الآخرون: "لا حجة لكم في هذه الآثار" أي الأحاديث التي رويت عن عائشة فيما مضى "لأنها إنما جاءت في ثياب ينام فيها" أي النبي - صلى الله عليه وسلم - "ولم تأت في ثياب يصلي (عليها) " فإذا لم تكن هذه الآثار في الثياب التي يصلى فيها فيجوز أن يكون حكمها حكم الثياب النجسة بالغائط أو البول أو الدم، فإن هذه الثياب لا بأس بالنوم فيها، ولا يجوز الصلاة فيها، فيكون حكم المني كذلك، وباقي كلامه ظاهر.

                                                فإن قيل: إذا كان المني نجسا عندكم كان ينبغي ألا يجوز الفرك فيه، كما في سائر النجاسات.

                                                [ ص: 444 ] قلت: نعم، هذا هو القياس في هذا الباب، ولكن خص بحديث الفرك، وروي عن محمد أنه قال: إن كان المني غليظا فهو يطهر بالفرك، وإن كان رقيقا لا يطهر إلا بالغسل .

                                                وقال: إذا أصاب المني ثوبا ذا طاقين فالطاق الأعلى يطهر بالفرك والأسفل لا يطهر إلا بالغسل; لأنه تصيبه البلة دون الجرم، وهذه مشكلة فإن الفحل لا يمني حتى يمذي، والمذي -بالتخفيف- لا يطهر بالفرك، إلا أنه جعل المذي في هذه الحالة معلوما مستهلكا بالمني، فكان الحكم للمني دون المذي.

                                                وقال الإمام أبو إسحاق الحافظ المني اليابس إنما يطهر بالفرك، إذا كان رأس الذكر طاهرا وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، وأما إذا لم يكن طاهرا لا يطهر، قال: وهذا رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ، وكذلك إنما يتطهر المصاب بالفرك إذا خرج المني قبل خروج المذي، فأما إذا خرج المذي على رأس الإحليل، ثم خرج المني لا يطهر الثوب بالفرك. ثم إذا فرك المني اليابس عن الثوب وحكم بطهاراته، ثم أصابه الماء، هل يعود نجسا؟ فهو على الروايتين عن أبي حنيفة ، كذا في "المحيط".

                                                وعن الفضلي إن مني المرأة لا يطهر بالفرك; لأنه رقيق.

                                                فإن قيل: ما تقول في رواية الدارقطني التي ذكرناها؟

                                                قلت: إنما شبهه بالمخاط في لزوجته وقلة تداخله في الثوب، ولهذا أمره بإماطته؛ لأنه إذا أماطه عنه ذهب أكثره، وبقي القليل منه، مع أنه أمره بإماطته، والأمر للوجوب، ومن يقول بأنه طاهر لا يوجب إزالته.

                                                فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون الأمر للإباحة؟

                                                قلت: أعلى مراتب الأمر الوجوب، وأدناها الإباحة، وهنا لا وجه للثاني; لأنه - عليه السلام - لم يتركه على ثوبه أبدا، وكذلك الصحابة من بعده، والأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ ينصرف إلى الكامل، اللهم إلا أن يصرف ذلك عنه بقرينة تقوم، فتدل عليه حينئذ.

                                                [ ص: 445 ] فإن قيل: قال الله تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا سماه ماء وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل أنه أراد به الشبيه في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرا.

                                                قلت: إن تسميته ماء لا يدل على طهارته; فإن الله سمى مني الدواب ماء بقوله: والله خلق كل دابة من ماء ولا يدل ذلك على طهارة ماء كل الحيوان.

                                                وقد قال الخطابي : حديث الفرك يدل على طهارة المني، وحديث الغسل لا يخالفه، إنما هو استحباب واستظهار بالنظافة، كما قد يغسل من النخامة والمخاط، والحديثان إذا أمكن استعمالهما لم يجز أن يحملا على التناقض.

                                                قلت: ما ادعى أحد المخالفة بين الحديثين ولا التناقض، وإنما يدل حديث الغسل على نجاسة المني، بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضا في بابه، ولكنه خص بحديث الفرك كما قلنا، ولا نسلم أن غسل هذا مثل غسل النخامة والمخاط.

                                                لأنه ورد في حديث أخرجه الدارقطني في "سننه": "يا عمار ، ما نخامتك ولا دموعك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما يغسل الثوب من خمس: من البول، والغائط، والمني، والدم، والقيء" فانظر كيف ذكره بين الغائط والدم؟! والاستدلال به: أنه أمره بغسل الثوب عن المني بكلمة "إنما" وهي لإثبات المذكور ونفي ما عداه، وإثبات المذكور بنفي ما عداه يدل على التحقيق لا على البدل.

                                                والثاني: أنه قرنه بالأشياء التي هي نجسة بالإجماع فكان حكمه حكم ما قرن به; لأن القران في الجملة الناقصة.

                                                فإن قيل: قد قال الدارقطني : لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جدا.

                                                [ ص: 446 ] قلت: قال البزار : وثابت بن حماد كان ثقة.

                                                فإن قيل: قد قال البيهقي : وأما حديث عمار بن ياسر "أن النبي - عليه السلام - قال: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك ... " الحديث، فهو باطل لا أصل له; إنما رواه ثابت بن حماد ، عن علي بن زيد ، عن ابن المسيب ، عن عمار وعلي بن زيد غير محتج به، وثابت بن حماد متهم بالوضع.

                                                قلت: كفاك أن الدراقطني أخرجه.

                                                وقوله: علي بن زيد غير محتج به لا تفيد دعواه; لأن مسلما روى له مقرونا بغيره، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي ، وقال رجل لابن معين اختلط علي بن زيد ؟ قال: ما اختلط علي بن زيد قط وهو أحب إلي من ابن عقيل ، ومن عاصم بن عبد الله . وقال العجلي لا بأس به. وفي موضع آخر: يكتب حديثه. وروى له الحاكم في المستدرك، وقال الترمذي : صدوق.

                                                وفي "الجوهر النقي": وأما كون ثابت بن حماد متهما بالوضع فما رأيت أحدا بعد الكشف التام ذكره غير البيهقي ، وقد ذكر هو أيضا هذا الحديث في كتاب المعرفة، وضعف ثابتا هذا ولم ينسبه إلى التهمة بالوضع.

                                                فإن قيل: إنه أصل الأنبياء والأولياء فيجب أن يكون طاهرا.

                                                قلت: هو أصل الأعداء أيضا كنمروذ وفرعون وغيرهم، على أنا نقول: العلقة أقرب إلى الإنسان من المني وهي أيضا أصل الأنبياء، ومع هذا لا يقال: طاهرة، فعلم أن كون المني أصل الأنبياء - عليهم السلام - لا عبرة له في الطهارة، أو نقول: الواجب في خروج المني أكبر الطهارتين -وهو الغسل- والبول لا يجب بخروجه إلا الوضوء، فلو لم تكن نجاسته أقوى من نجاسة البول لم يكن حكمه أغلظ من حكمه.

                                                فرضنا أنه طاهر، لكن مخرجه مخرج النجس لأنه يخرج من حيث يخرج البول فينجس; لاتصال النجس به.

                                                فإن قيل: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط.

                                                [ ص: 447 ] قلت: لا نسلم أن القياس صحيح; لأن المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلا، والمني موجب لأكبر الحدثين، وهو الجنابة، ولا نسلم أن سقوط الغسل يدل على الطهارة كما في موضع الاستنجاء.

                                                فإن قيل: ما حكم المني إذا جف على البدن؟

                                                قلت: قال مشايخ بخارى وسمرقند فيه: إنه كالثوب; لأن البلوى فيه أشد من البلوى في الثوب، فيطهر البدن كالثوب؛ دفعا للحرج.

                                                وفي "مبسوط السرخسي " روي عن أبي حنيفة في المني إذا أصاب البدن: لا يطهر إلا بالغسل; لأن لين البدن يمنع زوال أثره بالحت.




                                                الخدمات العلمية