الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 187 ] ( و ) يجوز ( بجار وقعت فيه نجاسة و ) الجاري ( هو ما يعد جاريا ) عرفا ، وقيل ما يذهب بتبنة ، والأول أظهر ، والثاني ( وإن ) وصلية ( لم يكن جريانه بمدد ) في الأصح ، [ ص: 188 ] فلو سد النهر من فوق فتوضأ رجل بما يجري بلا مدد جاز ; لأنه جار ، وكذا لو حفر نهرا من حوض صغير أو صب رفيقه الماء في طرف ميزاب وتوضأ فيه وعند طرفه الآخر إناء يجتمع فيه الماء جاز توضؤه به ثانيا وثم وثم وتمامه في البحر ( إن لم ير ) أي يعلم ( أثره ) فلو فيه جيفة أو بال فيه رجال فتوضأ آخر من أسفله جاز ما لم ير في الجرية أثره ( وهو ) إما ( طعم أو لون أو ريح ) ظاهره يعم الجيفة وغيرها ، وهو ما رجحه الكمال . وقال تلميذه قاسم إنه المختار ، وقواه في النهر ، وأقره المصنف .

وفي القهستاني عن المضمرات عن النصاب : وعليه الفتوى ، وقيل إن جرى عليها نصفه فأكثر لم يجز وهو أحوط . [ ص: 189 - 190 ] وألحقوا بالجاري حوض الحمام لو الماء نازلا والغرف متدارك ، كحوض صغير يدخله الماء من جانب ويخرج من آخر يجوز التوضؤ من كل الجوانب مطلقا ، به يفتى ، وكعين هي خمس في خمس ينبع الماء منه ، به يفتى قهستاني معزيا للتتمة .

التالي السابق


( قوله : وقعت فيه نجاسة ) يشمل المرئية كالجيفة ويأتي قريبا تمامه .

( قوله : عرفا ) تمييز أو منصوب بنزع الخافض : أي يعد من جهة العرف أو في العرف تأمل .

( قوله : والأول أظهر ) أي وأصح كما في البحر والنهر ، لتعويله على العرف ولجريانه على قاعدة الإمام من النظر إلى المبتلين ط ، لكن استشكل بأنه لا يتعين أصلا لتعدده واختلافه بتعدد العادين واختلافهم .

( قوله : والثاني أشهر ) لوقوعه في كثير من الكتب حتى المتون . وقال صدر الشريعة وتبعه ابن الكمال : إنه الحد الذي ليس في دركه حرج ، لكن قد علمت أن الأول أصح والعرف الآن أنه متى كان الماء داخلا من جانب وخارجا من جانب آخر يسمى جاريا وإن قل الداخل ، وبه يظهر الحكم في برك المساجد ومغطس الحمام مع أنه لا يذهب بتبنة ، والله أعلم . مطلب الأصح أنه لا يشترط في الجريان المدد .

( قوله : في الأصح ) نقل تصحيحه في البحر عن السراج الوهاج وعن شرح الهداية للسراج الهندي ، وقواه بعدما نقل عن الفتح اختيار خلافه . أقول : ويزيده قوة أيضا ما مر من أنه لو سال دم رجله مع العصير لا ينجس خلافا لمحمد . وفي الخزانة إناءان ماء أحدهما طاهر والآخر نجس فصبا من مكان عال فاختلطا في الهواء ثم نزلا طهر كله ، ولو أجرى ماء الإناءين في الأرض صار بمنزلة ماء جار ا هـ ونحوه في الخلاصة . ونظم المسألة المصنف في منظومته تحفة الأقران . وفي الذخيرة : [ ص: 188 ] لو أصابت الأرض نجاسة فصب عليها الماء فجرى قدر ذراع طهرت الأرض والماء بمنزلة الماء الجاري ، ولو أصابها المطر وجرى عليها طهرت ، ولو كان قليلا لم يجر فلا .

( قوله : فلو سد إلخ ) تفريع على الأصح وتأييد له . واعلم أن هذه المسائل مبنية على القول بنجاسة الماء المستعمل ، وكذا نظائرها كما صرح به في الفتح والبحر والحلية وغيرها ، فالتفريغ صحيح ; لأنه حينئذ من جنس وقوع النجاسة في الماء الجاري فافهم .

( قوله : وكذا لو حفر نهرا إلخ ) أي وأجرى الماء في ذلك النهر وتوضأ به حال جريانه فاجتمع الماء في مكان ، فحفر رجل آخر نهرا من ذلك المكان وأجرى الماء فيه وتوضأ به حال جريانه فاجتمع في مكان آخر ففعل ثالث كذلك جاز وضوء الكل إذا كان بين المكانين مسافة وإن قلت ذكره في المحيط وغيره . وحد ذلك أن لا يسقط الماء المستعمل إلا في موضع جريان الماء فيكون تابعا للجاري خارجا من حكم الاستعمال ، وتمامه في شرح المنية .

( قوله : وثم ) الواو داخلة على محذوف معطوف عليه بثم ، فلم يدخل حرف العطف على مثله ، أي وجاز توضؤه ثالثا ثم رابعا وخامسا ثم سادسا والقصد التكثير ط .

( قوله : أي يعلم ) فسره به ليشمل الطعم واللون أيضا . ا هـ . ح .

( قوله : أثره ) الأولى أثرها أي النجاسة ، لكنه ذكر ضميرها لتأولها بالواقع . وفي شرح هدية ابن العماد لسيدي عبد الغني : الظاهر أن المراد بهذه الأوصاف أوصاف النجاسة لا الشيء المتنجس كماء الورد والخل مثلا ، فلو صب في ماء جار يعتبر أثر النجاسة التي فيه لا أثره نفسه لطهارة المائع بالغسل ، إلى أن قال ولم أر من نبه عليه ، وهو مهم فاحفظه .

( قوله : فلو فيه جيفة إلخ ) أشار إلى ما قدمناه من شمول النجاسة المرئية وغيرها فيعتبر ظهور الأثر في كل منهما .

( قوله : من أسفله ) أي أسفل المكان الذي وقعت فيه الجيفة أو البول ط .

( قوله : في الجرية ) بالفتح اسم للمرة من الجري : أي الدفعة الواحدة ، وأما بالكسر فذكر في القاموس أنها مصدر ، وهو غير مناسب هنا ; لأن الأثر يظهر في العين لا في الحدث فافهم .

( قوله : ظاهره يعم الجيفة وغيرها ) أي ظاهر إطلاق المصنف النجاسة كغيره من المتون ، وهذا يغني عنه ما قبله ، فالأولى حذفه والاقتصار على ما بعده .

( قوله : وهو ما رجحه الكمال إلخ ) وأيده تلميذه العلامة ابن أمير الحاج في الحلية ، وكذا أيده سيدي عبد الغني بما في عمدة المفتي من أن الماء الجاري يطهر بعضه بعضا ، وبما في الفتح وغيره من أن الماء النجس إذا دخل على ماء الحوض الكبير لا ينجسه لو كان غالبا على ماء الحوض . قال : فالجاري بالأولى ، وتمامه في شرحه .

( قوله : وقيل إلخ ) الأول قول أبي يوسف وهذا قولهما كما في السراج ، ومشى عليه في المنية وقواه شارحها الحلبي . وأجاب عما في الفتح وفي البحر أنه الأوجه وهو المذكور في أكثر الكتب وصححه صاحب الهداية في التجنيس للتيقن بوجود النجاسة فيه ، بخلاف غير المرئية ; لأنه إذا لم يطهر أثرها علم أن الماء ذهب بعينها ، وأيده العلامة نوح أفندي . واعترض على ما في النهر ، وأطال الكلام وأوضح المرام . والحاصل أنهما قولان مصححان ثانيهما أحوط كما قال الشارح . قال في المنية : وعلى هذا ماء المطر إذا جرى [ ص: 189 ] في الميزاب وعلى السطح عذرات فالماء طاهر ، وإن كانت العذرة عند الميزاب أو كان الماء كله أو نصفه أكثره يلاقي العذرة فهو نجس وإلا فطاهر . ا هـ . وعلى ما رجحه الكمال قال في الحلية : ينبغي أن لا يعتبر في مسألة السطح سوى تغير أحد الأوصاف . ا هـ . أقول : وعلى هذا الخلاف ما في ديارنا من أنهار المساقط التي تجري بالنجاسات وترسب فيها لكنها في النهار يظهر أثر النجاسة وتتغير ، ولا كلام في نجاستها حينئذ . وأما في الليل فإنه يزول تغيرها فيجري فيها الخلاف المذكور لجريان الماء فيها فوق النجاسة . قال في خزانة الفتاوى : ولو كان جميع بطن النهر نجسا ، فإن كان الماء كثيرا لا يرى ما تحته فهو طاهر وإلا فلا وفي الملتقط قال بعض المشايخ : الماء طاهر وإن قل إذا كان جاريا ا هـ . تنبيه مهم في طرح الزبل في القساطل

قد اعتيد في بلادنا إلقاء زبل الدواب في مجاري الماء إلى البيوت لسد خلل تلك المجاري المسماة بالقساطل فيرسب فيها الزبل ويجري الماء فوقها فهو مثل مسألة الجيفة ، وفي ذلك حرج عظيم إذا قلنا بالنجاسة ، والحرج مدفوع بالنص . وقد تعرض لهذه المسألة العلامة الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي دمشق فبكتابه [ هدية ابن العماد ] واستأنس لها ببعض فروع ، وبالقاعدة المشهورة من أن المشقة تجلب التيسير ، وبما فرعوا عليها كما ذكره في الأشباه . وقد أطال الكلام سيدي عبد الغني النابلسي في شرحه على هذه المسألة بما حاصله أنه إذا رسب الزبل في القساطل ولم يظهر أثره فالماء طاهر ، وإذا وصل إلى الحياض في البيوت متغيرا ونزل في حوض صغير أو كبير فهو نجس وإن زال تغيره بنفسه ; لأن الماء النجس لا يطهر بتغيره إلا إذا جرى بعد ذلك بماء صاف فإنه حينئذ يطهر ، فإذا انقطع الجريان بعد ذلك ، فإن كان الحوض صغيرا والزبل راسب في أسفله تنجس ، ما لم يصر الزبل حمأة وهي الطين الأسود فإنه إذا جرى بعد ذلك بماء صاف ثم انقطع لا يتنجس .

وهذا كله بناء على نجاسة الزبل عندنا . عن زفر : روث ما يؤكل لحمه طاهر . وفي المبتغى بالغين المعجمة : الأرواث كلها نجسة إلا رواية عن محمد أنها طاهرة للبلوى ، وفي هذه الرواية توسعة لأرباب الدواب فقلما يسلمون عن التلطخ بالأرواث والأخثاء فتحفظ هذه الرواية ا هـ كلام المبتغى . وإذا قلنا بذلك هنا لا يبعد ; لأن الضرورة داعية إلى ذلك ، كما أفتوا بقول محمد بطهارة الماء المستعمل للضرورة ونحو ذلك . وفي شرح العباب لابن حجر بناء على قول الإمام الشافعي : إذا ضاق الأمر اتسع أنه لا يضر تغير أنهر الشام بما فيها من الزبل ولو قليلة ; لأنه لا يمكن جريها المضطر إليه الناس إلا به . ا هـ .

وظاهره أن المعفو عنه عنده أثر الزبل لا عينه ا هـ ما في شرح الهدية ملخصا موضحا . أقول : ولا يخفى أن الضرورة داعية إلى العفو عن العين أيضا ، فإن كثيرا من المحلات البعيدة عن الماء في بلادنا يكون ماؤها قليلا ، وفي أغلب الأوقات يستصحب الماء عين الزبل ويرسب في أسفل الحياض ، وكثيرا ما ينقص الحوض بالاستعمال منه أو ينقطع الماء عنه فلا يبقى جاريا ولا سيما عند كري الأنهر وانقطاع الماء بالكلية أياما فإذا منعوا من الانتفاع بتلك الحياض لما فيها من الزبل يلزمهم الحرج الشديد كما هو مشاهد ، فاحتياجهم إلى التوسعة أشد من احتياج أرباب الدواب .

وقد قال في شرح المنية : المعلوم من قواعد أئمتنا التسهيل في مواضع الضرورة والبلوى العامة كما في مسألة آبار الفلوات ونحوها ا هـ أي كالعفو من نجاسة المعذور عن طين الشارع الغالب عليه النجاسة وغير ذلك ، نعم في بعض الأوقات يزداد التغيير فينزل الماء إلى الحوض أخضر وفيه عين الزبل فينجس [ ص: 190 ] الحوض لو صغيرا وإن كان جاريا ; لأن جريانه بماء نجس ولا ضرورة إلى الاستعمال منه في تلك الحالة فينتظر صفاؤه ثم يعفى عما في القساطل وما في أسفل الحوض ، لما علمت من الضرورة من أن المشقة تجلب التيسير ، ومن أنه إذا ضاق الأمر اتسع ، والله تعالى أعلم .

( قوله : وألحقوا بالجاري حوض الحمام ) أي في أنه لا ينجس إلا بطهور أثر النجاسة . أقول : وكذا حوض غير الحمام ; لأنه في الظهيرية ذكر هذا الحكم في حوض أقل من عشر في عشر ، ثم قال : وكذلك حوض الحمام ا هـ فليحفظ .

( قوله : والغرف متدارك ) جملة حالية أي متتابع ، وتفسيره كما في البحر وغيره أن لا يسكن وجه الماء فيما بين الغرفتين .

( قوله : ويخرج من آخر ) أي بنفسه أو بغيره لما في التتارخانية : لو كان يدخله الماء ولا يخرج منه لكن فيه إنسان يغتسل ويخرج الماء باغتساله من الجانب الآخر متداركا لا ينجس . ا هـ . مطلب لو أدخل الماء من أعلى الحوض وخرج من أسفله فليس بجار

ثم إن كلامهم ظاهره أن الخروج من أعلاه ، فلو كان يخرج من ثقب في أسفل الحوض لا يعد جاريا ; لأن العبرة بوجه الماء بدليل اعتبارهم في الحوض الطول والعرض لا العمق ، واعتبارهم الكثرة والقلة في أعلاه فقط كما سيذكره الشارح . وفي المنية إذا كان الماء يجري ضعيفا ينبغي أن يتوضأ على الوقار حتى يمر عنه الماء المستعمل ، ولم أر المسألة صريحا ، نعم رأيت في شرح سيدي عبد الغني في مسألة خزانة الحمام التي أخبر أبو يوسف برؤية فأرة فيها قال : فيه إشارة إلى أن ماء الخزانة إذا كان يدخل من أعلاها ويخرج من أنبوب في أسفلها فليس بجار . ا هـ . وفي شرح المنية يطهر الحوض بمجرد ما يدخل الماء من الأنبوب ويفيض من الحوض هو المختار لعدم تيقن بقاء النجاسة فيه وصيرورته جاريا . ا هـ . وظاهر التعليل الاكتفاء بالخروج من الأسفل لكنه خلاف قوله ويفيض ، فتأمل وراجع .

( قوله : مطلقا ) أي سواء كان أربعا في أربع أو أكثر . وقيل لو أكثر يتنجس ; لأن الماء المستعمل يستقر فيه إلا أن يتوضأ في موضع الدخول أو الخروج كما في المنية . وظاهر الإطلاق أيضا أنه إذا علم عدم خروج الماء المستعمل لضعف الجري لا يضر وليس كذلك لما في المنية عن الخانية . والأصح أن هذا التقدير غير لازم ، فإن خرج الماء المستعمل من ساعته لكثرة الماء وقوته يجوز وإلا فلا ا هـ وأقره الشارحان ، وزاد في الحلية قوله ولا شك أنه حسن ، لكن قال في التتارخانية بعدما مر : وحكي عن الحلواني أنه قال إن كان يتحرك الماء من جريانه يجوز . وأجاب ركن الإسلام السعدي بالجواز مطلقا ; لأنه ماء جار والجاري يجوز التوضؤ به وعليه الفتوى . ا هـ . ثم هذا كما في الحلية مبني على نجاسة الماء المستعمل ، وأما على الأصح المختار فيجوز الوضوء ما لم يغلب على ظنه أن ما يغترفه أو نصفه فصاعدا ماء مستعمل ا هـ . أقول : لكن إذا وقع فيه نجاسة حقيقة كان التفريع على حاله .

( قوله : وكعين إلخ ) يغني عنه الإطلاق السابق كما أفاده ح .

( قوله : ينبع الماء منه ) أي من العين وذكر الضمير باعتبار المكان .

( قوله : معزيا للتتمة ) فيه أن عبارة القهستاني كما في الزاهدي وغيره




الخدمات العلمية