الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه ولم يغسله

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          143 140 - ( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( بن عتبة ) بإسكان الفوقية ( بن مسعود ) الهذلي المدني ، ثقة ، ثبت ، فقيه ، من كبار التابعين ، كثير الحديث ، أحد السبعة ، مات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثمان وقيل غير ذلك .

                                                                                                          ( عن أم قيس بنت محصن ) بكسر الميم وإسكان الحاء وفتح الصاد المهملتين ، قال ابن عبد البر : اسمها جذامة يعني بالجيم والذال المعجمة ، وقال السهيلي : اسمها آمنة ، وحكى مثله أبو القاسم الجوهري في مسند الموطأ ، أسلمت قديما بمكة وهاجرت ولها أحاديث ، وقد زاد مسلم من طريق يونس : وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي أخت عكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة ( أنها أتت بابن لها صغير ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه ومات في عهده - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير كما رواه النسائي عنها قالت : توفي ابن لي فجزعت فقلت للذي يغسله : لا تغسل ابني بالماء البارد ، فغسله ، فذكر ذلك عكاشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ما لها طال عمرها ؟ " قال فلا يعلم امرأة عمرت ما عمرت .

                                                                                                          ( لم يأكل الطعام ) قال ابن التين : يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوت بالطعام ولم يستغن به عن الرضاع ، ويحتمل أنها جاءت به عند ولادته ليحنكه - صلى الله عليه وسلم - فيحمل النفي على عمومه ، ويؤيده رواية البخاري في العقيقة أتي بصبي يحنكه ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره ) [ ص: 249 ] بفتح الحاء على الأشهر وتكسر وتضم كما في المحكم وغيره الحضن أي وضعه إن قلنا كان كما ولد ، ويحتمل أن الجلوس حصل منه على العادة إن قلنا كان في سن من يحبو كما في قصة الحسن ( فبال على ثوبه ) أي ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                          وأغرب ابن شعبان من المالكية فقال : المراد ثوب الصبي والصواب الأول كذا قال الحافظ : وتعقب بأنه أفهم أن الثاني خطأ وليس كذلك فمعناه أن الابن بال على ثوب نفسه وهو في حجره - صلى الله عليه وسلم - فنضح الماء عليه خوفا أن يكون طار على ثوبه منه شيء ، وبهذا يكون دليلا للقائلين بنجاسة بوله وإن لم يأكل الطعام .

                                                                                                          ( فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء فنضحه ) صب الماء عليه ( ولم يغسله ) أي لم يعركه ، والنضح لغة يقال للرش ولصب الماء أيضا كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأعلم أرضا يقال له عمان ينضح بناحيتها البحر بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر " قاله ابن عبد البر ، وادعى الأصيلي أن قوله : ولم يغسله مدرج من ابن شهاب ، وأن المرفوع انتهى بقوله فنضحه ، قال وكذلك روى معمر عن ابن شهاب فقال : فنضحه ولم يزد ، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن ابن شهاب قال : فرشه ولم يزد على ذلك .

                                                                                                          قال الحافظ : ليس في سياق معمر ما يدل على الإدراج .

                                                                                                          وقد أخرجه عبد الرزاق بنحو سياق مالك لكنه لم يقل ولم يغسله وقد قالها مع ذلك الليث وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد كلهم عن ابن شهاب ، أخرجه ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب عنه ، وهو في مسلم عن يونس وحده ، نعم في رواية معمر قال ابن شهاب : فمضت السنة أن يرش بول الصبي ويغسل بول الجارية ، فلو كانت هذه الزيادة هي التي زادها مالك ومن تبعه لأمكن دعوى الإدراج لكنها غيرها فلا إدراج .

                                                                                                          وأما ما ذكره عن ابن أبي شيبة فلا اختصاص له بذلك فإنها لفظ رواية ابن عيينة عن ابن شهاب في مسلم وغيره وليست مخالفة لرواية مالك ، وفي هذا الحديث من الفوائد الندب إلى حسن المعاشرة والتواضع والرفق بالصغار وتحنيك المولود والتبرك بأهل الفضل وحمل الأطفال إليهم حال الولادة وبعدها وحكم بول الغلام والجارية قبل أن يطعما وهو مقصود الباب ، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب أصحها عند الشافعية الاكتفاء بالنضح أي الرش في بول الصبي لا الصبية وهو قول علي وعطاء والحسن والزهري وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم ، ورواه الوليد بن مسلم عن مالك لكن قال أصحابه هي رواية شاذة .

                                                                                                          والثاني يكفي النضح فيهما وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي ، وخصص ابن العربي النقل في هذا بما إذا كانا لم يدخل في أجوافهما شيء أصلا .

                                                                                                          والثالث هما سواء في وجوب الغسل وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأتباعهما وبه قال جماعة .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : وأحاديث التفرقة بين بول الصبي والصبية ليست بالقوية .

                                                                                                          وقال الحافظ : في الفرق أحاديث ليست على [ ص: 250 ] شرط الصحيح منها حديث علي مرفوعا : " ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية " أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وروي موقوفا .

                                                                                                          ومنها حديث لبابة بنت الحارث مرفوعا : " إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر " أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وغيره .

                                                                                                          ومنها حديث أبي السمح نحوه بلفظ : " يرش " رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة أيضا .

                                                                                                          قال ابن دقيق العيد : وفي وجه التفرقة بينهما أوجه ركيكة وأقواها ما قيل إن النفوس أعلق بالذكر منها بالإناث يعني فحصلت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة ، وقد احتج الحنفية والمالكية بأن الغسل منهما هو القياس والأصل في إزالة النجاسة ، وقياس الصبي على الصبية لاتفاق العلماء على استواء الحكم فيهما بعد أكل غير اللبن فلا بد من غسل بولهما بالإجماع ، وأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة تقدمت الإشارة إلى بعضها ، أحدها : أن المراد بالنضح هنا الغسل وذلك معروف في لسان العرب ومنه الحديث السابق : " إني لأعرف قرية ينضح البحر بناحيتها " .

                                                                                                          وقال - صلى الله عليه وسلم - في المذي : " فلينضح فرجه " رواه أبو داود وغيره والمراد الغسل كما في مسلم والقصة واحدة كالراوي ، وحديث أسماء في غسل الدم : " وانضحيه " ، وقد جاء الرش وأريد به الغسل كما في الصحيح عن ابن عباس لما حكى الوضوء النبوي قال أخذ غرفة من ماء ورش على رجله اليمنى حتى غسلها ، وأراد بالرش هنا الصب قليلا قليلا ، وتأولوا قوله : " ولم يغسله " أي غسلا مبالغا فيه كغيره ويؤيده رواية مسلم من طريق يونس بن يزيد ولم يغسله غسلا ، فدل بالمصدر المنون على نفي الكثير البليغ مع وجود أصل الغسل .

                                                                                                          ثانيها : أن معنى ولم يغسله لم يعركه فأريد كمال العرك ، قال ابن العربي : والغسل في كلام العرب هو عرك المغسول وقد يسمى زوال القذر غسلا وإن لم يتصل به عرك وذلك مجاز بدليل قول الراوي : ولم يغسله ، وإنما لم يحتج هنا إلى عرك لأن البول إذا أتبع بالماء بقرب ملاقاته الثوب خرج منه من غير عرك .

                                                                                                          ثالثها : أن ضمير على ثوبه عائد على الصغير كما مر .

                                                                                                          رابعها : أن قولها لم يأكل الطعام ليس علة للحكم وإنما هو وصف حال وحكاية قضية كما قال في الحديث الآخر رضيع واللبن طعام وحكمه حكمه في كل حال فأي شيء فرق بينه وبين الطعام والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بهذا ولا أشار إليه فنكل الحكم فيه إليه .

                                                                                                          خامسها : أن الأبهري نقل عن مالك ليس هذا الحديث بالمتواطأ عليه أي على العمل به ، وأما أحاديث التفرقة بين بول الأنثى فيغسل وبول الصبي ينضح فليست بقوية ، وعلى فرض صحتها فالمراد بالنضح الغسل ، قال الطحاوي : وإنما فرق بينهما لأن بول الذكر يكون في موضع واحد لضيق مخرجه ، وبول الجارية يتفرق لسعة مخرجه ، فأمر في بول الغلام بالنضح يريد صب الماء في موضع واحد ، وأراد بغسل الجارية أن يتبع بالماء لأنه يقع في مواضع متفرقة .

                                                                                                          [ ص: 251 ] ( تنبيه ) :

                                                                                                          قال الخطابي ليس تجويز من جوز النضح بمعنى الرش من أجل أن بول الصبي غير نجس ولكنه لتخفيف نجاسته انتهى .

                                                                                                          وجزم ابن عبد البر وابن بطال وغيرهما بأن الشافعي وأحمد قالا بطهارته رد بأنه لا يعرف عنهما .

                                                                                                          قال النووي : هذه حكاية باطلة وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم ، وأصحاب صاحب المذهب أعلم بمراده من غيرهم . انتهى .

                                                                                                          نعم نقل الطحاوي عن قوم القول بطهارة بول الصبي قبل الطعام ، وحديث الباب أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، وأبو داود عن عبد الله بن مسلمة ، والنسائي عن قتيبة ، الثلاثة عن مالك به ، وتابعه ابن عيينة ويونس كلهم عن ابن شهاب بنحوه عند مسلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية