الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسلك السادس : إثبات العلة بالشبه ويشتمل على ثلاثة فصول :

          الفصل الأول

          في حقيقة الشبه واختلاف الناس فيه وما هو المختار فيه

          نقول : اعلم أن اسم الشبه وإن أطلق على كل قياس ألحق الفرع فيه بالأصل لجامع يشبهه فيه ، غير أن آراء الأصوليين مختلفة فيه .

          [1] فمنهم من فسره بما تردد فيه الفرع بين أصلين ، ووجد فيه المناط الموجود في كل واحد من الأصلين ، إلا أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للأصل الآخر ، فإلحاقه بما هو أكثر مشابهة هو الشبهة ، وذلك كالعبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحر ، فإنه قد اجتمع فيه مناطان متعارضان [ ص: 295 ] أحدهما : النفسية ، وهو مشابه للحر فيها ، ومقتضى ذلك أن لا يزاد فيه على الدية .

          والثاني : المالية ، وهو مشابه للفرس فيها ومقتضى ذلك الزيادة .

          إلا أن مشابهته للحر في كونه آدميا مثابا معاقبا ، ومشابهته للفرس في كونه مملوكا مقوما في الأسواق ، فكان إلحاقه بالحر أولى لكثرة مشابهته له ، وليس هذا من الشبه في شيء ، فإن كل واحد من المناطين مناسب ، وما ذكر من كثرة المشابهة إن كانت مؤثرة فليست إلا من باب الترجيح لأحد المناطين على الآخر ، وذلك لا يخرجه عن المناسب وإن كان يفتقر إلى نوع ترجيح .

          ومنهم من فسره بما عرف المناط فيه غير أنه يفتقر في آحاد الصور إلى تحقيقه .

          وذلك كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أن المثل واجب بقوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) ، وليس هذا أيضا من الشبه ; إذ الكلام إنما هو مفروض في العلة الشبهية ، والنظر هاهنا إنما هو الحكم الواجب وهو الأشبه لا في تحقيق المناط ، وهو معلوم بدلالة النص .

          ودليل أن الواجب هو الأشبه أنه أوجب المثل ، ونعلم أن الصيد لا يماثله شيء من النعم ، فكان ذلك محمولا على الأشبه ، كيف وهو مجزوم مقطوع به والشبه مختلف فيه ، وكيف يكون المتفق عليه هو نفس المختلف فيه .

          ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان لا على سبيل الكمال إلا أن أحدهما أغلب من الآخر ، فالحكم بالأغلب حكم بالأشبه ، وذلك كاللعان فإنه قد وجد فيه لفظ الشهادة واليمين وليسا بمتمحضين ; لأن الملاعن مدع والمدعي لا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه ، وهذا وإن كان أقرب من المذاهب المتقدمة إلا أنه مهما غلبت إحدى الشائبتين فقد ظهرت المصلحة الملازمة لها في نظرنا ، فيجب الحكم بها ، ولكنه غير خارج عن التعليل بالمناسب .

          وقد ذهب القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدلالة ، وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ، ولكن يستلزم ما يناسب الحكم ، وسيأتي تحقيقه في موضعه بعد .

          [ ص: 296 ] ومنهم من فسره بما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها ، وذلك أن الوصف المعلل به لا يخلو إما أن تظهر فيه المناسبة ، أو لا تظهر فيه المناسبة [2] بوقوف من هو أهل معرفة المناسبة عليها ، وذلك بأن يكون ترتيب الحكم على وفقه مما يفضي إلى تحصيل مقصود من المقاصد المبينة من قبل ، فهو المناسب .

          وإن لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام ممن هو أهله ، فإما أن يكون مع ذلك مما لم يؤلف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام ، أو هو مما ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام .

          فإن كان من الأول ، فهو الطردي الذي لا التفات إليه ، ومثاله ما لو قال الشافعي مثلا في إزالة النجاسة بمائع : لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن .

          وكما لو علل في مسألة من المسائل بالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما .

          وإن كان الثاني ، فهو الشبهي ، وذلك لأنه بالنظر إلى عدم الوقوف على المناسبة فيه بعد البحث ، يجزم المجتهد بانتفاء مناسبته ، وبالنظر إلى اعتباره في بعض الأحكام يوجب إيقاف المجتهد عن الجزم بانتفاء المناسبة فيه ، فهو مشابه للمناسب في أنه غير مجزوم بنفي المناسبة عنه ، ومشابه للطردي في أنه غير مجزوم بظهور المناسبة فيه .

          فهو دون المناسب وفوق الطردي ، ولعل المستند في تسميته شبهيا إنما هو هذا المعنى .

          ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة النجاسة : طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث ، فإن الجامع هو الطهارة ، ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة . وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف ، يوهم اشتمالها على المناسبة كما تقرر .

          واعلم أن إطلاق اسم الشبه وإن كان حاصله في هذه الصور راجعا إلى الاصطلاحات اللفظية غير أن أقربها إلى قواعد الأصول الاصطلاح الأخير ، وهو الذي ذهب إليه أكثر المحققين ، ويليه في القرب مذهب القاضي أبي بكر .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية