الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم

"عين" في هذه الآية اسم جنس، ويحتمل أن تكون عينا مخصوصة ذكرت على جهة التشريف لها. ورفع السرر أشرف لها، و"الأكواب" أوان كالأباريق لا عرى لها ولا آذان ولا خراطيم، وشكلها عند العرب معروف، و"موضوعة" معناه: بأشربتها معدة و"النمرقة" الوسادة، ويقال نمرقة بكسر النون والراء، وقال زهير :


كهولا وشبانا حسانا وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق



[ ص: 601 ] و "الزرابي" واحدتها "زربية"، ويقال بفتح الزاي، وهي كالطنافس لها خمل، قاله الفراء ، وهي ملونات، و"مبثوثة" معناه: كثيرة متفرقة.

ثم أقام تعالى الحجة على منكري قدرته على بعث الأجساد بأن وقفهم على موضع العبرة في مخلوقاته، و"الإبل" في هذه الآية هي الجمال المعروفة، هذا قول الجمهور من المتأولين، وفي الجمل آيات وعبر لمن تأمل، ليس في الحيوان ما يقوم من البروك بحمله سواه، وهو على قوته غاية في الانقياد، قال الثعلبي في بعض التفاسير: إن فأرة جرت بزمام ناقة فتبعتها حتى دخلت الجحر فبركت الناقة وأدنت رأسها من فم الحجر، وكان شريح القاضي يقول لأصحابه: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وقال أبو العباس المبرد : الإبل هنا: السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي أرسالا كالإبل، وتزجى كما تزجى الإبل، وهي في هيئتها أحيانا تشبه الإبل والنعام، ومنه قول الشاعر:


كأن السحاب دوين السما     ء نعام تعلق بالأرجل



وقرأ أبو عمرو -بخلاف- وعيسى "الإبل" بشد اللام وهي السحاب فيما ذكر قوم من اللغويين والنقاش ، وقرأ الجمهور: "خلقت" بفتح القاف وضم الخاء، وقرأ

[ ص: 602 ] علي بن أبي طالب : "خلقت" بفتح الخاء وسكون القاف، على فعل التكلم، وكذلك [رفعت، ونصبت، وسطحت] ، وقرأ أبو حيوة: "رفعت، ونصبت وسطحت" بالتشديد فيها. و"نصبت" معناه: أثبتت قائمة في الهواء لا تنتطح، وقرأ الجمهور: "سطحت" ، بتخفيف الطاء وقرأ هارون الرشيد: "سطحت" بشد الطاء على المبالغة، وهي قراءة الحسن، وظاهر هذه الآية أن الأرض سطح لا كرة، وهو الذي عليه أهل العلم، والقول بكرويتها -وإن كان لا ينقص ركنا من أركان الشرع- فهو قول لا يثبته علماء الشرع.

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتذكير بهذه الآيات ونحوها. ثم نفى تعالى أن يكون مسيطرا على الناس، أي قاهرا مخبرا لهم مع تكبر متسلطا عليهم، يقال تسيطر علينا فلان، وقرأ بعض الناس: "بمسيطر" بالسين وبعضهم "بمصيطر" بالصاد، وقرأ هارون "بمسيطر" بفتح الطاء وهي لغة تميم، وليس في كلام العرب على هذا البناء غير "مسيطر، ومبيطر، ومبيقر، ومهيمن"، وفي الأسماء "مديبر، ومجيمر"، وهو اسم واد، ويحتمل أن يكون هذان مصغرين.

قوله تعالى: إلا من تولى وكفر قال بعض المتأولين: "الاستثناء متصل، والمعنى: إلا من تولى وكفر فأنت مسيطر عليه، فالآية -على هذا- لا نسخ فيها، وقال آخرون منهم: الاستثناء منفصل، والمعنى: "لست عليهم بمصيطر" وتم الكلام، وهي آية موادعة منسوخة بالسيف ثم قال تعالى: إلا من تولى وكفر فيعذبه ، وهذا هو القول الصحيح; لأن السورة مكية، والقتال إنما نزل بالمدينة، و"من" بمعنى "الذي". وقرأ ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، وزيد بن علي : "ألا من تولى" بفتح الهمزة، على معنى استفتاح الكلام، و"من" -على هذه القراءة- شرطية. و"العذاب الأكبر" عذاب الآخرة; لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقتل وغيرهما، وقرأ ابن مسعود : "فإنه يعذبه الله".

[ ص: 603 ] وقرأ الجمهور: "إيابهم"، مصدر من "آب يؤوب" إذا رجع، وهو الحشر والرد إلى الله تعالى، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "إيابهم" بشد الياء، على وزن "فعال" بكسر الفاء، أصله "فيعال"، من "أيب" فعل أصله "فيعل"، ويصح أن يكون من "أوب" فيجيء "إيوابا" وسهلت الهمزة، وكان اللازم في الإدغام ردها "إوابا"، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس.

كمل تفسير سورة [الغاشية] والحمد لله رب العالمين

.

التالي السابق


الخدمات العلمية