الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                      934 أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له عن ابن القاسم قال حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا

                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                      934 ( فيفصم عني ) بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة ، أي يقطع وينجلي ما يغشاني ، ويروى بضم أوله من الرباعي ، وأصل الفصم القطع ، وقيل الفصم بالفاء : القطع بلا إبانة ، وبالقاف : القطع بإبانة

                                                                                                      [ ص: 148 ] ( وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا ) التمثل مشتق من المثل ، أي يتصور ، واللام في الملك للعهد أي جبريل ، وصرح به رواية ابن سعد ، ورجلا منصوب نصب المصدر ، أي مثل رجل ، أو الحال أي هيئة رجل ، أو التمييز ، قال المتكلمون : الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا ، وقد سأل عبد الحق الصقلي إمام الحرمين حين اجتمع به بمكة عن هذه ، وكيف كان جبريل يجيء مرة في صورة دحية ، وجاء مرة في هيئة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، وصورته الأصلية وله ستمائة جناح ، وكل جناح منها يسد الأفق فقال : من قائل : إنه - سبحانه - يفني الزائد من خلقه ثم يعيده ، ومن قائل : إن ذلك إنما هو تمثيل في عين الرائي لا في جسم جبريل ، وهو الذي يعطيه قوله : يتمثل ، قال : وتحقيقه أن جبريل عبارة عن الحقيقة الملكية الخاصة ، وملك لا يتغير بالصور والقوالب ، كما أن حقيقتنا لا تتغير بها ، ألا ترى أن الجسم يتغير ويفنى مع أن الأرواح لا تتغير ، كما أنها في الجنة تركب على أجسام لطيفة نورانية ملكية تنعكس الأبدان الآدمية الكثيفة هناك إلى عالم الكمال الجسماني على نحو الأجسام الملكية الآن ، فحقيقة جبريل كانت معلومة عند النبي صلى الله عليه وسلم مجعولة في أي قالب كان ، قلت : ولهذا ورد في حديث مجيئه وسؤاله عن الإيمان : ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه إلا أن يكون هذه المرة ثم قال : ومن هذا فهم السر المودع في عصا موسى كيف كانت تارة ثعبانا فاتحا فاه ، وأخرى شمعة ، ومرة شجرة صورتها مثمرة ، وأخرى سميرا يحادثه إذا استوحش ، فتارة عود ، وأخرى ذو روح ، وانحطت مرة على فرعون وجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت ، ويقول فرعون : أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها فيأخذها فتعود عصا ، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ سراج الدين البلقيني : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه ، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل ، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته ، ومثل ذلك القطن إذا [ ص: 149 ] جمع بعد أن كان منتفشا ، فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة ، وذاته لم تتغير ، وهذا على سبيل التقريب ، والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا ، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه ، والظاهر أيضا أن القدر لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط ( فيكلمني ) قال الحافظ ابن حجر : وقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك : فيعلمني بالعين بدل الكاف ، والظاهر أنه تصحيف ، فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف ، وكذا للدارقطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره ( فأعي ما يقول ) زاد أبو عوانة في صحيحه : وهو أهون علي ( وإن جبينه ليتفصد عرقا ) بالفاء وتشديد المهملة مأخوذ من الفصد ، وهو قطع العرق لإسالة الدم ، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق ، وعرقا تمييز ، وحكى العسكري بالتصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأه ليتقصد بالقاف . قال العسكري : فإن ثبت فهو من قولهم : تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع ، ولا يخفى بعده ، قال الحافظ ابن حجر : وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء ، قال : فأصر على القاف

                                                                                                      [ ص: 150 ] [ ص: 151 ]



                                                                                                      الخدمات العلمية