الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال المزني : " واحتج في جواز الوضوء بفضل ما سوى الكلب والخنزير بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال : " نعم وبما أفضلت السباع كلها " وبحديث أبي قتادة في الهرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها ليست بنجس " وبقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا سقط الذباب في الإناء فامقلوه " فدل على أنه ليس في الأحياء نجاسة إلا ما ذكرت من الكلب والخنزير " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما سؤر الحيوان فهو ما فضل في الإناء من شربة والباقي من كل شيء يسمى سؤرا .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أكلتم فأسئروا " أي : فأبقوا .

                                                                                                                                            وقال الشاعر :


                                                                                                                                            بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها بتلاق وخير القول ما نفعا

                                                                                                                                            يعني قد أبقت في النفس حاجتها ، وإذا كان كذلك فالحيوان ضربان : طاهر ونجس ، فأما النجس فقد مضى الكلام في ولوغه ونجاسة سؤره ، وأما الطاهر فهو ما سوى الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وسؤر جميعه طاهر مأكولا كان أو غير مأكول ، وبه قال من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة ومن التابعين عطاء بن أبي رباح وقاسم بن محمد والحسن البصري . وقال الأوزاعي والثوري وسؤر ما لا يؤكل لحمه نجس ، وكذا لعابه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : سؤر السباع نجس لا يعفى عنه ، وسؤر حيوان الطين نجس ، لكن يعفى عنه وسؤر الهر وحشرات الأرض كلها طاهر ، وسؤر البغل والحمار مشكوك فيه يجوز استعماله مع عدم الماء ، ولا يجوز استعماله مع وجوده ، واستدلوا على ذلك في الجملة برواية عبد الله بن عمر قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من [ ص: 318 ] السباع والدواب فقال : " إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء " فدل على أن لورود السباع تأثيرا في تنجيس الماء .

                                                                                                                                            وروى نافع عن ابن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له فقال عمر يا صاحب المقراة أوقعت السباع الليلة في مقراتك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا صاحب المقراة لا تخبره ؛ هذا تكلف ، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شرابا وطهورا " .

                                                                                                                                            قالوا : فلولا أن للأخبار بورودها تأثيرا في المنع منه لما نهاه عن إخباره ، قالوا : ولأن كل حيوان كان لبنه نجسا ، كان سؤره نجسا ، كالكلب ، قالوا : ولأن للكلب حكمين ؛ نجاسة العين وتحريم الأكل ، فلما كانت السباع مساوية للكلب في تحريم الأكل اقتضى أن تكون مساوية له في نجاسة العين ، وتحريره أنه تحريم تعلق بالكلب فوجب أن يتعلق بالسباع كالأكل .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أيتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال نعم وبما أفضلت السباع كلها ، وهذا نص ، وروى الشافعي عن مالك عن إسحاق بن عبد الله عن حميدة بنت عبيد عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب فأصغى لها الإناء حتى شربت فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا بنت أخي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " .

                                                                                                                                            [ ص: 319 ] وروى داود بن صالح عن أمه أنها جاءت عائشة بصحيفة هريس ، وهي قائمة تصلي ، فإذا سؤر أخذ منها لقمة فدورتها عائشة ثم أكلت منها من حيث أكلت ثم قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم ، ولقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها .

                                                                                                                                            فدل هذان الحديثان على أن سؤر الهر ليس بنجس ، ولا مكروه : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعمل نجسا ولا مكروها ، ولأن كل حيوان لو أصاب ثوبا رطبا لم ينجسه فإذا أصاب الماء لم ينجس كالهر طردا ، والكلب عكسا ، ولأن كل ما لم ينجس بملاقاة الهر لم ينجس بملاقاة السبع كالثوب الرطب .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بالخبر الأول فمن وجوه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه استدلال بدليل الخطاب ، وهم لا يقولون به .

                                                                                                                                            والثاني : أن نطقه دليل على طهارة القلتين ، وهو عندهم نجس .

                                                                                                                                            والثالث : أنه محمول على ورود الكلاب لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الكلب يسمى سبعا ، والثاني أن ما وردته السباع مع توحشها ، وقلتها كان ورود الكلاب لها مع أنسها وكثرتها أكثر .

                                                                                                                                            وأما الخبر الثاني فهو دليل عليهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع من الاحتياط في الدين وتوقي الأنجاس في الطهارة ، فدل على أن ما سأل عنه لا يقتضي التنجيس ، وقد روي أن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وردا على ماء فسأل عمرو صاحب الماء هل ترده السباع فقال عمر لا تخبره فإنا نرد على السباع ، وترد السباع علينا .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الكلب بعلة أن لبنه نجس ، فقد اختلف أصحابنا في لبن ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات الطاهرة هل هو نجس مع اتفاقهم على تحريم شربه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه طاهر وإن كان محرم الشرب كاللعاب فعلى هذا يبطل التعليل .

                                                                                                                                            والثاني : أنه نجس كاللحم فعلى هذا يكون القياس منتقضا بالهر لبنها نجس ، وسؤرها طاهر ، ثم المعنى في الكلب نجاسة عينه ، وتحريم ثمنه .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم على تحريم أكله الدال على نجاسة عينه فمنتقض ببني آدم ثم المعنى في الأكل أنه قد يحرم فيما لا يكون نجسا من سموم النبات .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية