الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تنبيهات ) :

( الأول ) : مقتضى ما ذكرنا من الأخبار والآثار أن العبد يمكنه تحسين خلقه ، وإلا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به في عدة أحاديث من قوله صلى الله عليه وسلم { وخالق الناس بخلق حسن } { وحسن خلقك للناس } إلى غير ذلك من الأحاديث .

وحكي في شرح مسلم في باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم أن القاضي [ ص: 368 ] عياض قال : حكى الطبراني خلافا للسلف هل هو غريزة أم مكتسب . انتهى .

وقال الماوردي في قوله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم { وإنك لعلى خلق عظيم } الطبع الكريم ، فسمي خلقا لأنه يصير كالخلقة في صاحبه ، فأما ما طبع عليه فيسمى الخيم فيكون الخيم الطبع الغريزي ، والخلق الطبع المتكلف . قال الإمام العلامة ابن مفلح في آدابه الكبرى : فيكون هذا كما قيل إن العقل غريزة ، ومنه ما يستفاد بالتجارب وغير ذلك ، وهذا متوجه . انتهى . يعني أن حسن الخلق منه ما هو غريزة مركوز في طبع الإنسان خلقه الله فيه كملكة العقل وغيره ، ومنه ما مكتسبا من التجارب والتخلق به . ولذا قال الجوهري : وفلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلف . وقدمنا قول الشاعر :

إن التخلق يأتي دونه الخلق

وأما الخيم بالكسر فقال الجوهري هو السجية والطبيعة لا واحد له من لفظه . وهذا من الجوهري يدل على أن الخلق والخيم مترادفان والله أعلم .

أقول : الخيم بكسر الخاء المعجمة وبعدها ياء مثناة تحت فميم . وفي شعر حسان رضي الله عنه في مدح أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق رضوان الله عليهما :

حصان رزان لا تبوء بريبة     وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤي بن غالب     كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها     وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو     فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي     لآل رسول الله بين القبائل

والشاهد في خيمها أي سجيتها وطبيعتها رضوان الله عليها .

وقال الحافظ ابن رجب في قوله صلى الله عليه وسلم { وخالق الناس بخلق حسن } هذا من تمام التقوى فلا تتم إلا به ، وإنما أفرده صلى الله عليه وسلم بالذكر للحاجة إلى بيانه ، فإن كثيرا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده ، فنص صلى الله عليه وسلم على الأمر بإحسان العشرة للناس فإنه { صلى الله عليه وسلم كان قد بعث معاذا رضي الله عنه الذي وصاه بهذه الوصية إلى اليمن معلما لهم ، ومفقها وقاضيا } . من كان كذلك فإنه يحتاج [ ص: 369 ] إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به ولا يخالطهم ، وكثيرا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والاعتكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها . والجمع بين حقوق الله وحقوق عباده عزيز جدا لا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والصديقين . وقد قال الحارث المحاسبي : ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة : حسن الوجه مع الصيانة ، وحسن الخلق مع الديانة ، وحسن الإخاء مع الأمانة .

وقال بعض السلف : جلس داود عليه السلام خاليا فقال الله عز وجل مالي أراك خاليا ؟ قال هجرت الناس فيك يا رب العالمين . قال يا داود ألا أدلك على ما تستثني وجوه الناس وتبلغ فيه رضائي ، خالق الناس بأخلاقهم ، واحتجز الإيمان بيني وبينك .

ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { حسن الخلق زمام من رحمة الله تعالى في أنف صاحبه ، والزمام بيد الملك ، والملك يجره إلى الخير ، والخير يجره إلى الجنة . وسوء الخلق زمام من عذاب الله تعالى في أنف صاحبه ، والزمام بيد الشيطان ، والشيطان يجره إلى الشر ، والشر يجره إلى النار } والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية