الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين

                                                                                                          وحدثني عن مالك أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم في رمضان في ساعة من ساعات النهار لا في أوله ولا في آخره ولم أسمع أحدا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه قال يحيى وسمعت مالك يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان إنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك وقال يحيى سمعت مالكا يقول لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          691 687 [ ص: 298 ] - ( مالك عن عمه أبي سهيل ) نافع ( بن مالك عن أبيه ) مالك بن أبي عامر المدني الأصبحي ، ( عن أبي هريرة أنه قال : ) كذا وقع موقوفا في الموطآت إلا موطأ معن بن عيسى فرفعه وهو لا يكون إلا توقيفا قاله ابن عبد البر .

                                                                                                          وقد رواه الشيخان من طريق إسماعيل بن جعفر الأنصاري ومن طريق الزهري كلاهما عن أبي سهيل المذكور عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل رمضان فتحت ) بتشديد الفوقية ويجوز تخفيفها ( أبواب الجنة ) حقيقة لمن مات فيه أو عمل عملا لا يفسد عليه ، وذلك علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ، وللبخاري : أبواب السماء ، فقيل إنه من تصرف الرواة وأصله الجنة .

                                                                                                          وقال ابن بطال : المراد من السماء الجنة بقرينة قوله : ( وغلقت أبواب النار ) حقيقة أيضا لذلك ، ( وصفدت ) بضم المهملة وشد الفاء غلت ( الشياطين ) أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال التي يغل بها اليدان والرجلان وتربط في العنق وهي بمعنى رواية البخاري " وسلسلت الشياطين " حقيقة أيضا منعا لهم من أذى المؤمنين والتشويش عليهم ، أو مجاز عن كثرة الثواب والعفو .

                                                                                                          ويؤيده رواية لمسلم : " فتحت أبواب الرحمة " إلا أن يقال : الرحمة من أسماء الجنة أو من تصرف الرواة ، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيكونون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء لناس دون ناس لحديث : " صفدت مردة الشياطين " ، أو فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموما كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات ، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها ، وكذلك تغليق أبواب النار ، وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات ، هكذا أبدى القاضي عياض احتمالي الحقيقة والمجاز على السواء ونقله النووي وأقره ، ورجح القرطبي وابن المنير الحقيقة إذ لا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره ، وقال ابن العربي : لا تمتنع الحقيقة لأنهم ذرية إبليس يأكلون ويشربون ويطئون ويموتون ويعذبون ولا ينعمون ، وقال ابن بزيزة : يدل على أن التصفيد حقيقة ما في كثير من الأخبار أنها تصفد وترمى في البحر ، ورجح التوربشتي المجاز فقال : هو كناية عن تنزيل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول ، وغلق أبواب جهنم عبارة عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات ، ويمنع حمله على ظاهره أنه ذكر على سبيل المن على الصوام وإتمام النعمة عليهم فيما أمروا به وندبوا إليه حتى صارت الجنان في هذا الشهر كأن أبوابها فتحت ونعيمها هيئ والنيران كأن أبوابها غلقت وأنكالها عطلت ، وإذا [ ص: 299 ] ذهبنا إلى الظاهر لم تقع المنة موقعها وتخلو عن الفائدة لأن الإنسان ما دام في الدنيا غير ميسر لدخول إحدى الدارين ، ورده الطيبي بأن فائدة الفتح توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين وأن ذلك منه تعالى بمنزلة عظيمة ، وأيضا إذا علم المكلف المعتقد ذلك بإخبار الصادق يزيد ذلك في نشاطه ويتلقاه بمزيد القبول ، ويشهد له حديث عمر : " إن الجنة لتزخرف لرمضان " ، قال ابن العربي : وقد استراب مريب فقال : نرى المعاصي في رمضان كما هي في غيره فما هذا التصفيد ؟ وما معنى الحديث ؟ وقد كذب وجهل فإنه لا يتعين في المعاصي والمخالفة أن تكون من وسوسة الشيطان إذ قد يكون من النفس وشهواتها ، سلمنا أنه من الشيطان فليس من شرط وسوسته التي يجدها الإنسان في نفسه اتصالها بالنفس إذ قد يكون مع بعده عنها لأنها من فعل الله ، فكما يوجد الألم في جسد المسحور والمعيون عند تكلم الساحر أو العاين فكذلك يوجد عند وسوسته من خارج ، أو أن المراد بالشياطين المردة لأنهم في الكفر والتمرد طبقات فتصفد المردة لا غير فتقل المخالفات ، ولا شك في قلتها في رمضان ، فمن زعم أنها فيه كغيره فقد باهت وسقطت مكالمته . انتهى .

                                                                                                          ويؤيد هذا رواية الترمذي وغيره : " صفدت الشياطين مردة الجن " ، وأجاب القرطبي بأنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه .

                                                                                                          وقال الحليمي : إن المراد بالشياطين مسترقو السمع منهم لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراقه فزيدوا التسلسل في رمضان مبالغة في الحفظ ، ويحتمل أن المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وقراءة القرآن والذكر انتهى .

                                                                                                          وقال غيره : المراد بعضهم وهم المردة لحديث الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا : " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، ونادى مناد : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، فلله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة " .

                                                                                                          ( مالك أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم في رمضان في ساعة من ساعات النهار لا في أوله ) ، وهو ما قبل الزوال فإنه مجمع على استحبابه ، ( ولا في آخره ) من الزوال للغروب ( ولم أسمع أحدا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه ) بل يستحبونه لظاهر الأدلة كحديث : " أفضل خصال الصائم السواك " ولم يخص وقتا ، وخبر : " لولا أن أشق [ ص: 300 ] على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة " ولم يخص صائما من غيره ولا وقتا .

                                                                                                          وقال عامر بن ربيعة : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصي " رواه أبو داود وغيره .

                                                                                                          وبهذا قال عمر وابن عباس وجماعة من التابعين وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي ، وقال النووي في شرح المهذب : إنه المختار ، وكره عطاء ومجاهد والشافعي وإسحاق وأبو ثور السواك للصائم آخر النهار لحديث : " خلوف فم الصائم " لأنه يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضيلته وإن كان في السواك فضل لكن فضل الخلوف أعظم ، وتعقب بأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة خالية غايته أنه يخف .

                                                                                                          وقال بعضهم : السواك مطهرة للفم فلا يكره كالمضمضة للصائم لاسيما وهي رائحة تتأذى بها الملائكة فلا تترك هنالك .

                                                                                                          وأما الخبر ففائدته عظيمة بديعة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مدح الخلوف نهيا للناس عن تقذر مكالمة الصائمين بسبب الخلوف لا نهيا للصائمين عن السواك ، والله غني عن وصول الرائحة الطيبة إليه ، فعلمنا يقينا أنه لم يرد بالنهي بقاء الرائحة وإنما أراد نهي الناس عن كراهتها ، وهذا التأويل أولى لأن فيه إكرام الصائم ولا تعرض فيه للسواك فيذكر أو يتأول ، ولذا قال ابن دقيق العيد : يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم " عند كل صلاة " ، وفي رواية : عند كل وضوء ، وحديث الخلوف لا يخصصه انتهى .

                                                                                                          وتعقب قياسه على دم الشهيد بالفرق بأن الصائم مناج لربه فندب له تطييب فمه ، والشهيد ليس بمناج وهو جيفة أشد من الدم فزواله لا يؤثر شيئا بل بقاؤه يوجب مزيد الرحمة له ، ولأنه أثر الظلم الذي ينتصف به من خصمه ، وسبيل الخصومة الظهور ولأنه بعد الموت فيأمن فيه الرياء ، ولا يرد أن مناجاة الصائم لربه مع دوام الخلوف أولى لقوله : أطيب عند الله من ريح المسك ، لأن مدحه يدل على فضله لا على أفضليته على غيره ، فهذا الوتر أفضل من الفجر .

                                                                                                          وفي الحديث : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " ، وكم من عبادة أثنى عليها مع فضل غيرها عليها ، وهذه المسألة من قاعدة ازدحام المصالح التي يتعذر الجمع بينها ، فالسواك إجلالا لله حال مناجاته في الصلاة لأن تطهير الفم للمناجاة تعظيم لها ، والخلوف مناف لذلك فقدم السواك لخبر : " لولا أن أشق " .

                                                                                                          ( قال يحيى : وسمعت مالكا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه ) الاجتهاد ( يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ) الذين لم أدركهم كالصحابة وكبار التابعين .

                                                                                                          ( وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق ) بضم الياء وكسر الحاء [ ص: 301 ] ( برمضان ما ليس منه أهل الجهالة ) بالرفع فاعل يلحق ، ( والجفاء ) الغلظة والفظاظة ، ( لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك ) ، قال مطرف : فإنما كره صيامها لذلك ، فأما من صامها رغبة لما جاء فيها فلا كراهة .

                                                                                                          وفي مسلم والسنن عن أبي أيوب مرفوعا : " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " ، قال عياض : لأن الحسنة بعشرة والستة تمام السنة كما رواه النسائي ، قال شيوخنا : إنما كره مالك صومها مخافة أن يلحق الجهلة برمضان غيره .

                                                                                                          أما صومها على ما أراده الشرع فلا يكره ، وقيل : لم يبلغه الحديث ، أو لم يثبت عنده أو وجد العمل على خلافه ، ويحتمل أنه إنما كره وصل صومها بيوم الفطر ، فلو صامها أثناء الشهر فلا كراهة وهو ظاهر قوله ستة أيام بعد الفطر من رمضان .

                                                                                                          وقال أبو عمر : كان مالكا متحفظا كثير الاحتياط في الدين ، ـ والصيام عمل بر ـ فلم يره من ذلك خوفا على الجهلة كما أوضحه انتهى .

                                                                                                          ووجه كونه لم يثبت عنده وإن كان في مسلم أن فيه سعد بن سعيد ضعفه أحمد بن حنبل ، وقال النسائي : ليس بالقوي . وقال ابن سعد : ثقة قليل الحديث ، وقال ابن عيينة وغيره : إنه موقوف على أبي أيوب أي وهو مما يمكن قوله رأيا إذ الحسنة بعشرة فله علتان الاختلاف في راويه والوقف .

                                                                                                          ( وقال يحيى : سمعت مالكا يقول : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن ) أي مستحب لحديث ابن مسعود : " كان صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة " رواه الترمذي وحسنه وصححه ابن عبد البر .

                                                                                                          وقال ابن عمر : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطرا يوم الجمعة قط وحديث : " من صام يوم الجمعة كتب له عشرة أيام غر زهر من أيام الآخرة لا تشاكلهن أيام الدنيا " ، ( وقد رأيت بعض أهل العلم ) ، قال أبو عمر : قيل إنه محمد بن المنكدر ، وقيل : صفوان بن سليم ، ( يصمه وأراه ) بضم الهمزة أظنه ( كان يتحراه ) ، قال الباجي : أتى به إخبارا لا اختيارا لفعله لرواية ابن القاسم كراهة صوم يوم موقت أو شهر ، ويحتمل أن هذا قول له بكراهة قصد يوم الجمعة بالصوم .

                                                                                                          وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا : " لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله يوما أو بعده " ، وفيهما عن جابر : " نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة " ، زاد مسلم : ورب هذا البيت ، وللنسائي : ورب الكعبة .

                                                                                                          فلذا ذهب الجمهور إلى كراهة إفراده .

                                                                                                          قال عياض : ولعل [ ص: 302 ] قول مالك يرجع إليه لأنه قال : صومه حسن ومذهبه كراهة تخصيص يوم معين بالصوم ، وإنما حكى صومه عن غيره وظنه أنه كان يتحراه ، ولم يقل عن نفسه وأنا أراه وأحبه .

                                                                                                          وأشار الباجي إلى احتمال أنه قول آخر له يوافق الحديث .

                                                                                                          وقال الداودي : لم يبلغه ولو بلغه لم يخالفه .

                                                                                                          قال الأبي : فالحاصل أن المازري والداودي فهما من الموطأ الجواز ، وعياض رده إلى ما علم من مذهبه من كراهة تخصيص يوم بالصوم ، وعضد ذلك بما أشار إليه الباجي من احتمال أن ما في الموطأ قول آخر له بالكراهة كما في الحديث ، وأكثر الشيوخ إنما يحكي عن مالك الجواز ، وهو ظاهر قول ابن حبيب ، ورد الترغيب في صيام يوم الجمعة .




                                                                                                          الخدمات العلمية