الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          شبهات الملاحدة على جعل الطهارة عبادة : تلك فوائد الطهارة الذاتية لها التي شعرت لأجلها ، وأما فوائدها الدينية ، وجعلها عبادة ودينا ، فإننا قبل بيانها ننبه أذهان المؤمنين إلى جهالة بعض المعطلين ، الذين ينتقدون جعل الطهارة من الدين ، ويزعمون أنهم ينطقون بحقائق الفلسفة ، ولا نصيب لهم منها إلا السفه والتقليد في الكفر من غير بينة ولا عذر : عمي القلوب عموا عن كل فائدة لأنهم كفروا بالله تقليدا [ ص: 219 ] يقول هؤلاء العميان المنكوسون والأغبياء المركسون : إن الطهارة والآداب يجب أن تؤتى لمنفعتها وفائدتها المترتبة عليها ; لا لأن الله تعالى أمر بها ويثيب على فعلها ويعاقب على تركها ، ويزعمون أن الدين يحول دون هذه الفلسفة العالية التي ارتقوا إليها ، ويفسد نفس الإنسان بتخويفه من العقاب ، ويحجبه عن معرفة الواجب والعمل به لأنه الواجب - أي حجاب - ويحتجون على ذلك بأنهم هم وأمثالهم ، ممن لا دين لهم ، أنظف ثيابا وأبدانا من جمهور المتدينين ، حتى المتنطعين منهم في الطهارة والموسوسين ، ومن يعدهم الجمهور من الأولياء والقديسين . ونقول في كشف شبهتهم وإظهار جهالتهم : ( أولا ) : إن الدين الإسلامي الذى لا يوجد في الأرض دين سماوي سواه ثابت الأصل ، سامق الفرع ، لم يشرع للناس شيئا إلا ما كان فيه دفع لضرر أو مفسدة ، أو جلب لنفع أو مصلحة ، وهو يهدي الناس إلى معرفة أحكامه مع معرفة حكمها الكاشفة لهم عن فوائدها ومنافعها ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ( 2 : 151 ) فما يتبجحون به من الاهتداء إلى وجوب القيام بالأعمال والآداب ، مع مراعاة منافعها وفوائدها ، هو مما هدى إليه الإسلام الذى عظم أمر حسن النية في جميع الأمور ، وحث على طلب الحكمة في كل عمل .

                          و ( ثانيا ) : إن أمر الأمم بالأعمال والآداب التي تفيدها في مصالحها الاجتماعية ، ومنافع أفرادها الشخصية ، ونهيها عن الأفعال التي تضر الأفراد والجمهور لا يقبلان ويمتثلان بمجرد تعليلهما بدفع الضر وجلب النفع كما يزعمون ; لأمرين : ( أحدهما ) أن إقناعك جميع أفراد الأمة أو أكثرها بضرر كل ما تراه ضارا ونفع كل ما تراه نافعا متعذر ، ولم يتفق لأحد من العقلاء والحكماء إرجاع أمة من الأمم عن عمل ضار ، ولا حملها على عمل نافع بمجرد دعوتهم إلى ذلك بالدليل على نفع النافع وضرر الضار ، ولا ترى أمة ولا قبيلة من البشر متفقة على شيء من ذلك إلا بسبب دعوة دينية أو تقاليد أوصلهم إليها اختبارهم الموافق لطبيعة معاشهم ، وكثيرا ما تكون هذه التقاليد المتفق عليها بين قوم مختلفا فيها عند آخرين ، أو متفقا على ضرر ما يراه أولئك نافعا ، ونفع ما يرونه ضارا .

                          ( ثاني الأمر ) : أن مجرد الإقناع والاقتناع بضرر الضار ونفع النافع لا يوجب العمل ولا الترك ; لأنه قد يعارضه هوى النفس ولذتها فيرجح الكثيرون أو الأكثرون الهوى على المنفعة ، خصوصا إذا كانت لأمتهم لا لأشخاصهم ، وإننا نرى هؤلاء المعترضين المساكين يشربون الخمر ، وهم يعتقدون أنها ضارة ، وقد أفقر القمار بيوت أمثلهم وأشهرهم ، وأذل من أذل منهم بالدين والحجز على ما يملك ، وبيعه حتى قيل [ ص: 220 ] إنه أمات بعضهم غما وكمدا ، ونراهم مع ذلك مفتونين به لا يتركونه ، فإذا كان هذا شأن أرقاهم علما وفهما وأدبا وفلسفة في اتباع أهوائهم التي ثبت لهم ضررها بالاختبار والعيان ، وليس وراء ذلك برهان ؛ فكيف يزعمون أنه يمكن تهذيب الأمة بالإقناع العقلي على تعذره ، وما عرفوا من أثره ؟ ! وأما ما يعنون به من النظافة وبعض الآداب ، فإنهم لا يأتونه لما عندهم من الفلسفة والعلم بنفعه ، بل قلدوا فيه قوما اهتدوا إليه بأسباب اجتماعية علمية وعملية ، وتجارب واختبارات عدة قرون . حدثني رجل من أرقى الأمة الإنكليزية أخلاقا وأدبا وعلما واستقلالا - وهو مستر متشل أنس الذي كان وكيل نظارة المالية بمصر - أنه لا يزال يوجد في أوربا من لا يغتسل في سنته أو في عمره ولا مرة واحدة ، وأن الشعب الإنكليزي هو أشد الشعوب الأوربية عناية بالنظافة ، والقدوة لها فيها ، كما يظهر ذلك لكل مسافر في البواخر التي يسافر فيها كثير من الأوروبيين المختلفي الأجناس ، وأن الإنكليز قد تعلموا الاستحمام وكثرة الغسل من أهل الهند .

                          ومن دلائل تقليد هؤلاء المتفرنجين المساكين في النظافة الظاهرة ، وأنهم ليسوا فيها على شيء من العقل والفلسفة ، أنهم في غسل الأطراف يستبدلون ما يسمونه " التواليت " بالوضوء الذي هو أكمل منه وأنفع ، وأن من يعنى منهم بأسنانه يستبدل في تنظيفها " الفرشة " بمسواك الأراك ، وهو أنفع منها بشهادة أئمتهم الإفرنج ، كما قال أحد الأطباء الألمانيين لمن أوصاه بأسنانه : " عليك بشجرة محمد " صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في مجلة ( غازتة باريس الطبية ) تحت عنوان " عناية العرب بالفم " : " بتأثير السواك تصير الأسنان ناصعة البياض ، واللثة والشفتان جميلة اللون الأحمر ، إلى أن قالت : وإنه ليسوؤنا ألا تكون عنايتنا بأفواهنا ، ونحن أهل المدنية ، كعناية العرب بها ، وقالوا : إن ما في عود الأراك من المادة العفصية العطرة يشد اللثة ، ويحول دون حفر الأسنان ، وإنه يقوي المعدة على الهضم ، ويدر البول ، وقد فاتنا أن نذكر هذا عند الكلام على السواك .

                          و ( ثالثا ) : إذا ثبت بالعقل والبرهان والاختبار والعيان أن إقناع أمة من الأمم بالنفع والضرر متعذر ، وأن حملها على ترك الضار وعمل النافع للأفراد وللجمهور ; لأنه نافع ، غير كاف في هدايتها ، ثبت أن إصلاح شأنها بالفضيلة والآداب ، وترك المضار ، والاجتهاد في سبيل المنافع ، يتوقف على تأثير مؤثر آخر يكون له السلطان الأعلى على النفس ؛ وهو الدين ، فثبت بهذا أن الجمع بين معرفة حكم الأعمال ، وكونها طاعة لله تعالى تؤهل العامل لسعادة النفس في الآخرة ، كما يستفيد بها ما يترتب عليها من المنفعة في الدنيا ، هو الذي يرجى أن يذعن له جمهور الأمة ، فمن الناس من لا يطمئن قلبه بالإيمان والإذعان لأحكام الدين إلا إذا عرف حكمة كل أصل من أصوله ، وكل حكم من كليات [ ص: 221 ] أحكامه ، ومنهم من يذعن لكل ما يأمره به دينه ، ولا يهمه البحث عن حكمته ; لأن استعداده لطلب الحكمة ضعيف ، ولكنه إذا قبل ذلك ، بادئ بدء ، من غير معرفة حكمته لا يلبث أن ينال حظا من هذه الحكمة عندما يتفقه في دينه كما يجب عليه ، ومهما ضعف الدين فهو أعم تأثيرا من الإقناع العقلي ، فقلما يوجد مسلم متدين لا يغتسل من الجنابة ، وما نراه من ترك كثير ممن يسمون مسلمين للكثير من مهمات الإسلام ، فسببه أنه ليس لهم من الإسلام إلا الاسم ، فلا تعلموا حقيقته ، ولا تربوا على تزكيته .

                          و ( رابعا ) : أن معنى كون الطهارة ، وغيرها من الأعمال الأدبية والفضائل ، دينا هو أن الوحي الإلهي يأمرنا بها لما فيها من الخير والفوائد الذاتية التي تنفعنا ، وتدرأ الضر عنا ، وهو ما بيناه أولا ، ولفوائد أخرى لا ندركها إلا بجعلها من أحكام الدين .

                          و ( خامسا ) : - وهذا هو المقصد ، وما قبله تمهيد ومقدمات - أن الفوائد من جعل الطهارة من أحكام الدين وعبادته أربع ، وهي كما نرى :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية