الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الثالث - ما يتعلق بالأحكام الشرعية الفقهية : فقال الأصم وبشر المريسي : إن الحق فيها واحد وأن أدلتها قاطعة ، فلذلك من تعدى الحق فيها فهو مخطئ وآثم ، فكيف بمسائل العقائد ، وإنما يستقيم هذا المذهب إذا لم يكن القياس حجة ، وكذلك خبر الواحد والعمومات كلها ، فالحجج المثبتة لكون هذه حجة يلزمها بطلان هذا المذهب . وأما جمهور الأمة فقد قالوا : إن هذه المسائل منها ما لا يسوغ فيه الاجتهاد ، ومنها ما ليس كذلك ، والتي لا يسوغ فيها الاجتهاد وهي التي أدلتها قاطعة فيها ، فإنا نعلم بالضرورة أنها من دين النبي عليه الصلاة والسلام كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنى والخمر ، والمخطئ في هذا كافر لتكذيبه الله تعالى ورسوله . ومنها ما ليس كذلك ، كجواز بيع الحصا ، وتحريم الخنزير والمخطئ في هذه آثم غير كافر .

                                                      [ ص: 282 ] وأما التي يسوغ فيها الاجتهاد فهي المختلف فيها ، كوجوب الزكاة في مال الصبي ، ونفي وجوب الوتر وغيره مما عدمت فيها النصوص في الفروع ، وغمضت فيها الأدلة ويرجع فيها إلى الاجتهاد ، فليس بآثم . قال ابن السمعاني : ويشبه أن يكون سبب عوضها امتحانا من الله لعباده ، ليتفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة ، كما قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } { وفوق كل ذي علم عليم } . وعلى هذا يتأول ما ورد في بعض الأخبار : { اختلاف أمتي رحمة } فعلى هذا النوع يحمل هذا للفظ دون النوع الآخر ، فيكون اللفظ عاما والمراد خاصا . واختلف العلماء في حكم أقوال المجتهدين ، هل كل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ؟ واختلف النقل في ذلك .

                                                      ونحن نذكر ما وقفنا عليه من كلامهم فنقول : قال الماوردي والروياني في كتاب القضاء : ذهب الأكثرون إلى أن الحق في جميعها ، وأن كل مجتهد مصيب فيما عند الله ، ومصيب في الحكم ، لأن جواز الجميع دليل على صحة الجميع ، قال الماوردي وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة . وقالت الأشعرية بخراسان : لا يصح هذا المذهب عن أبي الحسن ، قال : والمشهور عنه عند أهل العراق ما ذكرناه ، وأن من أدى اجتهاده إلى حكم يلزمه العمل به ولا تحل له مخالفته . فدل على أنه الحق [ ص: 283 ] وذهب الشافعي رحمه الله وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء رحمهم الله إلى أن الحق في أحدهما ، وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين ، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا حراما ، ولأن الصحابة تناظروا في المسائل واحتج كل واحد على قوله ، وخطأ بعضهم بعضا ، وهذا يقتضي أن كل واحد يطلب إصابة الحق .

                                                      ثم اختلفوا هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ فعند الشافعي أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين ، وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد ، وبه قال مالك وغيره . وقال أبو يوسف وغيره : كل مجتهد مصيب وإن كان الحق في واحد ، فمن أصابه فقد أصاب الحق ، ومن أخطأه فقد أخطأه . ونسبه بعض أصحابنا المتأخرين إلى الشافعي ، تمسكا بقوله : " وأدى ما كلف " . فظن أنه أراد بذلك " أصاب " ، وغلطوه فيه ، وإنما أراد أنه في معنى من أدى ما كلف به أنه لا يأثم . انتهى .

                                                      وقال القاضي أبو الطيب الطبري : الحق من قول المجتهدين واحد ، والآخر باطل ، وإن اختلفوا على ثلاثة أقاويل فأكثر . قال أبو إسحاق المروزي في " الشرح " في أدب القضاء : هذا قول الشافعي في الجديد والقديم ، لا أعلم اختلف قوله في ذلك ، وقد نص عليه في مواضع ، ولا أعلم أحدا من الصحابة اختلف في ذلك على مذهبه ، وإنما نسب قوم من المتأخرين ممن لا معرفة لهم بمذهبه إليه أن كل مجتهد مصيب ، وادعوا ذلك عليه ، وتمسكوا بقوله في المجتهد : " أدى ما كلف " فقالوا : المؤدي ما كلف مصيب . قال أبو إسحاق : وإنما قصد الشافعي بذلك رفع الإثم عنه ، لأنه لو قصد خلاف الحق لأثم ، وإذا خالف من غير قصد لم يكن آثما ، وكان بمنزلة المؤدي ما كلف . قال القاضي أبو الطيب : ويحتمل أن يكون معناه : أدى ما كلف عند نفسه ، فإنه يعتقد وضع الدليل في حقه ، وسلك ما وجب من طريقه .

                                                      [ ص: 284 ] قال أبو إسحاق : وكل موضع رأيت فيه من كلام الشافعي هذه الألفاظ فاقرأ الباب فإنك تجد قبله وبعده نصا على أن الحق في واحد ، وأن ما عداه خطأ . ثم غلط أبو إسحاق القول على من نسب إلى الشافعي : كل مجتهد مصيب . قال القاضي أبو الطيب : ويدل على أن هذا مذهبه : إذا اجتهد اثنان في القبلة فأدى اجتهادهما إلى جهتين مختلفتين فتوجه كل واحد منهما إلى جهته ، ولو ائتم أحدهما بالآخر لم تصح صلاته . وهذا يدل على أن الإمام مخطئ عنده . وكذلك من صلى خلف من لا يقرأ فاتحة الكتاب ، وله نظائر . وحكي عن أبي إسحاق أنه قال : ويشبه أن تكون المسألة على قولين ، لأن الشافعي ذكر قولين فيمن أخطأ القبلة بيقين ، هل تلزمه الإعادة أم لا ؟ والأصح : عليه الإعادة . ومن يقول : كل مجتهد مصيب يقول : لا إعادة عليه . وكذلك قال : لو دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا ، تلزمه الإعادة ؟ قولان : قال القاضي : وهذه الطريقة اختيار أبي حامد ، وهو الذي حكاها عن أبي إسحاق . والصحيح عن أبي إسحاق ما ذكرنا . وقال أبو علي الطبري صاحب " الإيضاح " في " أصوله " إن الله نصب على الحق علما ، وجعل لهم إليه طريقا فمن أصابه فقد أصاب الحق ، ومن أخطأه عذر بخطئه وأجر على قصده . ثم قال : وبه قال الشافعي وجملة أصحابه . وقد استقصى المزني ذلك في كتاب " الترغيب في العلم " وقطع بأن الحق في واحد ودل عليه ، وقال : إنه مذهب مالك والليث وهو مذهب كل من صنف من أصحاب الشافعي من المتقدمين والمتأخرين . وإليه ذهب من الأشعريين أبو بكر بن مجاهد . وابن فورك وأبو إسحاق الإسفراييني ، وقال : نقضت هذه المسألة على البصري المعروف بجعل . وقال القاضي : وقد ذكر أبو الحسن الأشعري القولين جميعا ، وقد أبان .

                                                      [ ص: 285 ] الحق في واحد " ، ولكنه مال إلى اختيار : " كل مجتهد مصيب " وهذا مذهب معتزلة البصرة وهم الأصل في هذه البدعة ، وقالوا هذا لجهلهم بمعاني الفقه وطرقه الدالة على الحق ، الفاصلة بينه وبين ما عداه من الشبه الباطلة ، وقالوا : ليس فيها طريق أولى من طريق ، ولا أمارة أقوى من أخرى ، والجميع متكافئون . ومن غلب على ظنه شيء حكم به ، فيحكمون فيما لا يعلمونه وليس من شأنهم ، وبسطوا لذلك ألسنة نفاة القياس منهم ومن غيرهم القائلين بأنه لا يصح القياس والاجتهاد لأن ذلك يصح في طلب يؤدي إلى العلم أو إلى الظن ، وليس في هذه الأصول ما يدل على أحكام الحوادث علما و ظنا .

                                                      قال القاضي أبو الطيب : وفي المسألة قول ثالث ، وهو أن الحق واحد ، ولكن الله تعالى لم يكلفنا إصابته ، وإنما كلف الاجتهاد في طلبه ، وكل من اجتهد في طلبه فهو مصيب ، وقد أدى ما كلف . وقال أبو علي الطبري في أصوله " : قد أضاف قوم من أصحابنا هذا إلى الشافعي ، واستدل بقوله : " لأنه أدى ما كلف " : قال : وهو خطأ على أصله ، لأنه نص على أن الحق واحد ، وأن أحدهما مخطئ لا محالة . قال القاضي أبو الطيب : واختلف النقل عن أبي حنيفة فنقل أنه ذكر في بعض المسائل ، كقولنا . وفي بعضها كقول أبي يوسف . ولنا أن الحق لما كان في واحد لم يكن المصيب إلا واحدا . ولو كان كل مجتهد مصيبا ما أخطأ مجتهد . وقال عليه الصلاة والسلام : { إذا اجتهد الحاكم فأخطأ } انتهى . وقال ابن كج : صار عامة أصحابنا إلى أن الحق في واحد ، والمخطئ له معذور . وقال أهل العراق وأصحاب مالك : كل مجتهد مصيب ، وإليه ذهب ابن سريج وأبو حامد .

                                                      إلا أنه كلف ما أدى إليه اجتهاده . ثم نص ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ، ولا يجوز إجماعهم على خطأ . ثم قال : إنه معذور . [ ص: 286 ] وقال ابن فورك في كتابه : للناس فيها ثلاثة أقاويل : أحدها - أن الحق في واحد ، وهو المطلوب ، وعليه دليل منصوب ، فمن وضع النظر موضعه أصاب الحق ، ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم ، ولا نقول ; إنه معذور ، لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لا عذر في تركه ، كالعاجز على القيام في الصلاة . وهو عندنا قد كلف إصابة العين لكنه خفف أمر خطئه وأجر على قصده الصواب ، وحكمه نافذ على الظاهر . وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في كتاب " الرسالة " و " أدب القاضي " .

                                                      وقال : كل مجتهدين اختلفا فالحق في واحد من قوليهما . والثاني - أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يكلفوا إصابته ، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد ، وإن كان بعضهم مخطئا . والثالث - أنهما كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن . انتهى . فحصل وجهان في أنه يقال فيه معذور أم لا . وقال الشيخ أبو إسحاق : اختلف أصحابنا ، فقيل : الحق في واحد ، وما عداه باطل ، إلا أن الإثم مرفوع عن المخطئ ، وقيل : إن هذا مذهب الشافعي . وقيل : فيه قولان هذا أحدهما . والثاني : إن كل مجتهد مصيب ، وهو ظاهر قول مالك وأبي حنيفة ، وهو مذهب المعتزلة وأبي الحسين ، وحكى القاضي أبو بكر عن أبي علي بن أبي هريرة أنه كان يقول بأخرة : إن الحق في واحد مقطوع به عند الله ، وأن مخطئه مأثوم ، والحكم بخلافه منقوض ، وهو قول الأصم وابن علية وبشر المريسي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية