الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              377 384 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث، عن يزيد، عن عراك، عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه. [انظر: 382 - مسلم: 512، 744 - فتح: 1 \ 492] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث عائشة من ثلاث طرق:

                                                                                                                                                                                                                              أولها: عن أبي النضر -مولى عمر بن عبيد الله- عن أبي سلمة عنها أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: من حديث عروة عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 378 ] ثالثها: من حديث عراك، عن عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه.

                                                                                                                                                                                                                              والكلام على ذلك من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              أثر أنس رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن ابن المبارك عن حميد قال: كان أنس يصلي على فراشه، وحكاه عن طاوس أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما تعليق أنس فذكره مسندا في الباب الذي بعده بمعناه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديثها الأول: فسيأتي في موضعين من البخاري في الصلاة في باب: التطوع خلف المرأة، وما يجوز من العمل في الصلاة أواخر كتاب الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم أيضا وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديثها الثاني: فأخرجه ابن ماجه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 379 ] وأما الثالث: فهو مرسل كما شهد له، وأخرجه صاحبا "المستخرجين" الإسماعيلي وأبو نعيم، وكذا قال الحميدي: كذا وقع مرسلا. وقد سلف أن عروة روى نحوه عن عائشة. وعراك بن مالك ثقة، مات في زمن يزيد بن عبد الملك بالمدينة.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              الجنازة بكسر الجيم وفتحها من جنز إذا ستر، وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش، وقيل عكسه.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: في فقهه: وفيه مسائل:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: جواز الصلاة على كل طاهر، فراشا كان أو غيره، فالرواية الأولى ليس فيها ذكر الفراش بخلاف الثانية والثالثة، والحديث يفسر بعضه بعضا، وقد اختلف العلماء في إخبارهم بعض ما يصلى عليه دون غيره، فروي عن عمر أنه صلى على عبقري، [ ص: 380 ] وهي الطنفسة، وعن علي وابن عباس وابن مسعود وأنس: أنهم صلوا على المسوح. وصلى ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء والنخعي والحسن على طنفسة. وصلى قيس بن عباد على لبد دابة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الثوري: يصلى على البساط والطنفسة واللبد، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وروي عن ابن مسعود: أنه لا يسجد إلا على الأرض. وعن عروة مثله.

                                                                                                                                                                                                                              وكرهت طائفة الصلاة إلا على الأرض أو نباتها. روي ذلك عن جابر بن زيد، وقال: أكره الصلاة على كل شيء من الحيوان، وأستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض، وهو قول مجاهد، وقال قتادة: قال سعيد بن المسيب وابن سيرين: الصلاة على الطنفسة محدث، ونهى الصديق عن الصلاة على البراذع. وقال مالك [ ص: 381 ] في بساط الصوف والشعر إذا وضع المصلي جبهته ويديه على الأرض، فلا أرى بالقيام عليها بأسا، وعن عطاء مثله. وقال مغيرة: قلت لإبراهيم حين ذكر كراهته الصلاة على الطنفسة: إن أبا وائل يصلي عليها قال: أما إنه خير مني، وفي "كتاب الصلاة" لأبي نعيم: حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على بساط. وحدثنا زمعة، عن عمرو بن دينار، عن كريب، عن أبي معبد، عن ابن عباس قال: قد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بساط.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها، ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء سلفا وخلفا، منهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة، ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها، وذهب بعضهم إلى قطع مرور المرأة والحمار والكلب.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حزم: يقطع الصلاة كون الكلب بين يديه مارا أو غير مار، [ ص: 382 ] أو كبيرا كان أو صغيرا، حيا أو ميتا، وكون الحمار بين يديه كذلك أيضا، وكون المرأة بين يدي الرجل مارة أو غير مارة صغيرة أو كبيرة إلا أن تكون مضطجعة معترضة فقط، فلا تقطع الصلاة حينئذ ولا يقطع النساء بعضهن صلاة بعض.

                                                                                                                                                                                                                              والجواب عن حديث قطع الصلاة بهؤلاء من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أن المراد بالقطع النقص لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها؛ لأن المرأة تفتن بالمتفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأمور آيلة إلى القطع جعلها قاطعة.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: أنها منسوخة بحديث: "لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم" وصلى الشارع وبينه وبين القبلة عائشة، وكانت الأتان ترتع بين يديه بمنى، ولم ينكره أحد لكن النسخ لا يصار إليه إلا بأمور منها التاريخ وأنى به، وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة إنما هي الحائض، يرده أنه جاء في بعض [ ص: 383 ] الروايات هذا الحديث. قال شعبة: وأحسبها قالت: وأنا حائض. وورود بإسناد ضعيف: "يقطع الصلاة اليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 384 ] المسألة الثالثة: أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة:

                                                                                                                                                                                                                              فيه جواز الصلاة إلى النائم، وكرهه بعضهم لغير الشارع لخوف الفتنة بها، وبذكرها واشتغال القلب. والشارع كان بالليل ولا مصباح فلا مشاهدة مع عصمته الثابتة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث" فقال أبو داود: روي من غير وجه عن محمد بن [ ص: 385 ] كعب كلها واهية، وهذا أمثلها وهو ضعيف أيضا. وصرح به الخطابي وغيره، وكان ابن عمر لا يصلي خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة.

                                                                                                                                                                                                                              رواه أبو داود بسند منقطع، وفي "مراسيله" بسند ضعيف: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدث الرجلان بينهما أحد يصلي.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن الحنفية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[رأى رجلا يصلي إلى رجل] فأمره أن يعيد، قال: لم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "لأنك صليت وأنت [ ص: 386 ] تنظر إليه مستقبله"، وفي "كامل ابن عدي" بسند واه عن ابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الإنسان إلى نائم أو متحدث، وفي "الأوسط" للطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف مرفوعا: "نهيت أن أصلي خلف النائم والمتحدثين". وفي كتاب "الصلاة" لأبي نعيم حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن معدي كرب عن عبد الله قال: لا تصلي بين يدي قوم يمترون.

                                                                                                                                                                                                                              وعن سعيد بن جبير إذا كانوا يذكرون الله فلا بأس. وفي رواية: كره سعيد أن يصلي وبين يديه متحدث. وضرب عمر بن الخطاب رجلين أحدهما مستقبل الآخر وهو يصلي.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الغمز يحتمل أن يكون بحائل وبغيره وإن استبعد ابن بطال الأول حيث قال: وزعم الشافعي أن غمزه لها كان على ثوب، وهو بعيد؛ لأنه يقول: إن الملامسة تنقض الوضوء، وإن لم يكن معها لذة [ ص: 387 ] إذا أفضى بيده إلى جسم امرأة.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فدل على أن الملامسة باليد لا تنقض الطهارة؛ لأن الأصل في الرجل أن تكون بلا حائل، وكذلك اليد حتى يثبت الحائل.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: هذه واقعة حال وهي محتملة، فلا دلالة فيها إذن مع أن الظاهر من حال النائم الستر، فهو دليل لما قاله الشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة:

                                                                                                                                                                                                                              قولها: (والبيوت يومئذ ليس لها مصابيح) قالته إقامة لعذرها حيث أحوجته إلى غمزها، وهذا دال على أنها إذ حدثت بهذا الحديث كانت المصابيح موجودة؛ إذ فتح عليهم الدنيا بعده فوسعوا إذ وسع الله عليهم.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية