الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          360 - مسألة : ولا يجوز للمأموم أن يقرأ خلف الإمام شيئا غير أم القرآن - : لما حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن سلم ثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ثنا يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : { صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، فلما انصرف قال : تقرءون خلفي قلنا : نعم يا رسول الله هذا ، قال : لا تفعلوا إلا بأم الكتاب ، فإنه لا صلاة إلا بها } . وممن قال بإيجاب أم القرآن كما ذكرنا جماعة من السلف روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سليمان الشيباني عن جواب عن يزيد بن شريك أنه قال لعمر بن الخطاب : أقرأ خلف الإمام ؟ قال له عمر : نعم ، قال : وإن قرأت يا أمير المؤمنين قال : نعم ، وإن قرأت . وعن الحجاج بن المنهال حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن عباية بن رداد عن عمر بن الخطاب قال : لا تجوز ولا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت إن كنت خلف إمام أو بين يدي إمام قال : اقرأ في نفسك وعن أبي عوانة عن سليمان عن خيثمة عن عمر قال : لا تجزئ صلاة ، أو لا [ ص: 267 ] تجوز صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ومن طريق وكيع عن عبد الله بن عون عن رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع قال : صليت صلاة وإلى جنبي عبادة بن الصامت فقرأ فاتحة الكتاب فلما انصرف قلت : أبا الوليد ، ألم أسمعك قرأت فاتحة الكتاب قال : أجل ، إنه لا صلاة إلا بها وعن وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن العيزار بن حريث عن ابن عباس قال : اقرأ خلف الإمام فاتحة الكتاب وعن عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان عن ليث عن عطاء عن ابن عباس قال : لا بد أن يقرأ خلف الإمام فاتحة الكتاب ; جهر أو لم يجهر وعن عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني نافع : أن ابن عمر لم يكن يدع أن يقرأ أم القرآن في كل ركعة من المكتوبة . وعن غيرهم أيضا . وعن أبي هريرة : اقرأ بها في نفسك . وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : اقرأ بأم القرآن في كل ركعة ، أو يقول في كل صلاة . وعن عروة بن الزبير أيضا . وعن معاذ عن عبد الله بن عون عن رجاء بن حيوة أنه كان يقول : إن كان خلف الإمام فجهر أو لم يجهر فلا بد من قراءة فاتحة الكتاب . وعن حجاج بن المنهال ثنا أبو هلال الراسبي قال : سأل جار لنا الحسن قال : أكون خلف الإمام يوم الجمعة فلا أسمع قراءته قال : اقرأ بفاتحة الكتاب ، قال الرجل : وسورة قال : يكفيك ذلك الإمام . وعن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف [ ص: 268 ] قال : للإمام سكتتان فاغتنموا القراءة فيهما بفاتحة الكتاب ، حين يكبر الإمام إذا دخل في الصلاة وحين يقول : { ولا الضالين } . والروايات ههنا تكثر جدا وقال أبو حنيفة : ليس قراءة أم القرآن فرضا ، وإن قرأ الإمام والمنفرد مثل : " آية الدين " ونحوها ولم يقرأ أم الكتاب أجزأه والقراءة عنده فرض في ركعتين من الصلاة فقط إما الأوليين أو الأخريين ، وإما واحدة في الأوليين وواحدة في الأخريين ، ولا يقرأ المأموم شيئا أصلا ، أجهر الإمام أو أسر . وقال مالك : قراءة أم القرآن فرض في جمهور الصلاة على الإمام والمنفرد فإن تركاه في ركعة ، فقد اختلف قوله ، فمرة رأى أن يلغي الركعة ويأتي بأخرى ومرة رأى أن يجزئ عنه سجود السهو . وأجاز للمأموم أن يقرأ خلف الإمام أم القرآن وسورة إذا أسر الإمام في الأوليين من الظهر والعصر ، وبأم القرآن وحدها في كل ركعة يسر فيها من كل صلاة . واختار له ذلك ، ولم ير له أن يقرأ شيئا في كل ركعة يجهر فيها الإمام . وقال الشافعي في آخر قوليه كقولنا - وهو قول الأوزاعي ، والليث بن سعد . واختلف أصحابنا - : فقالت طائفة : فرض على المأموم أن يقرأ أم القرآن في كل ركعة - أسر الإمام أو جهر - وقالت طائفة : هذا فرض عليه فيما أسر فيه الإمام خاصة ; ولا يقرأ فيما جهر فيه الإمام ولم يختلفوا في وجوب قراءة أم القرآن فرضا في كل ركعة على الإمام والمنفرد . قال علي : احتج من لم ير أم القرآن فرضا بقول الله تعالى : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } وبتعليم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للذي أمره بالإعادة فقال له : { اقرأ ما تيسر معك من القرآن } . قال علي : حديث عبادة يبين هذا الخبر الآخر ; وأن المراد بإيجاب قراءته ما تيسر من القرآن : هو أم القرآن فقط . [ ص: 269 ] وكأن من غلب حديث عبادة قد أخذ بالآية وبالأخبار كلها ; لأن أم القرآن مما تيسر من القرآن . وكأن من غلب قوله عليه السلام : { فاقرأ ما تيسر معك من القرآن } قد خالف حديث عبادة ; وأجاز صلاة أبطلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا لا يجوز ، لا سيما تقسيم أبي حنيفة بين إجازته قراءة آية طويلة ، أو ثلاث آيات ، ومنعه مما دونها . فهذا قول ما حفظ عن أحد قبله ، ولا على صحته دليل ; وهو خلاف للقرآن ، ولجميع الآثار - وله قول آخر : إن ما قرأ من القرآن أجزأه واحتج من رأى : أن لا يقرأ المأموم خلف الإمام الجاهر بقول الله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } . قال علي : وتمام الآية حجة عليهم ; لأن الله قال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } قال علي : فإن كان أول الآية في الصلاة فآخرها في الصلاة ; وإن كان آخرها ليس في الصلاة فأولها ليس في الصلاة ; وليس فيها إلا الأمر بالذكر سرا وترك الجهر فقط ; وهكذا نقول وذكروا حديث ابن أكيمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { مالي أنازع القرآن } - وفيه من قول الزهري : فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من القراءة . وهذا حديث انفرد به ابن أكيمة وقالوا : هو مجهول ; ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ; لأن الأخبار واجب أن يضم بعضها إلى بعض ، وحرام أن يضرب بعضها ببعض ; لأن كل ما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو كله حق يصدق بعضه بعضا ، ولا يخالف بعضه بعضا فالواجب أن يؤخذ كلامه عليه السلام كله بظاهره كما هو ، كما قاله عليه السلام ; لا يزاد فيه شيء ، ولا ينقص منه شيء ، فلا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ولا ينازع [ ص: 270 ] القرآن ، وهذا نص قولنا ولله الحمد ; وما عدا هذا فزيادة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقصان منه ، وذكروا أيضا : حديثا صحيحا من طريق ابن عجلان فيه { إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا قرأ فأنصتوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } . فهذا خبر أول من ينبغي أن يستغفر الله تعالى عند ذكره من مخالفة هذا الحديث : الحنفيون والمالكيون ; لأنهم مخالفون لأكثر ما فيه ; فإنهم يرون التكبير إثر تكبير الإمام : لا معه للإحرام خاصة . ثم يرون سائر التكبير والرفع والخفض مع الإمام : لا قبله ولا بعده ; وهذا خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : وفيه { إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا } فخالفوه إلى خبر كاذب لا يصح ، وإلى ظن غير موجود ، فمن العجب أن يحتجوا بقضية واحدة من قضاياه لا حجة لهم فيها ويتركوا سائر قضاياه التي لا يحل خلافها . قال علي : وأما نحن فإنه عندنا صحيح ، وبه كله نأخذ ، لأن تأليف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وضم بعضه إلى بعض والأخذ بجميعه - : فرض لا يحل سواه . وقد قال عليه السلام : " إذا قرأ الإمام فأنصتوا و { لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن } فلا بد في جميع هذه الأوامر من أحد وجهين لا ثالث لهما - : إما أن يكون وجه ذلك أن يقول : إذا قرأ فأنصتوا ، إلا عن أم القرآن - كما قلنا نحن [ ص: 271 ] وإما أن يكون وجه ذلك أن يقول : لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ، إلا إن قرأ الإمام - كما يقول بعض القائلين ، وإما أن يكون وجه ذلك أن يقول : لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ، إلا أن يجهر الإمام - كما يقول آخرون ، قال علي : فإذ لا بد من أحد هذه الوجوه ; فليس بعضها أولى من بعض إلا ببرهان ، وأما بدعوى فلا فنظرنا في ذلك فوجدنا الحديث الذي قد ذكرناه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انصرف من صلاة الفجر ، وهي صلاة جهر فقال : { أتقرءون خلفي ؟ قالوا : نعم ; هذا يا رسول الله ; قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة إلا بها } فكان هذا كافيا في تأليف أوامره عليه السلام ; لا يسع أحدا الخروج عنه . وقد موه قوم بأن قالوا : هذا خبر من رواية ابن إسحاق ، ورواه مكحول مرة عن محمود بن الربيع عن عبادة ; ومرة عن نافع بن محمود بن الربيع عن عبادة قال علي : وهذا ليس بشيء ; لأن محمد بن إسحاق أحد الأئمة ، وثقه الزهري - وفضله على من بالمدينة في عصره - وشعبة ، وسفيان ، وسفيان وحماد ; وحماد ويزيد ، ويزيد وإبراهيم بن سعد ، وعبد الله بن المبارك وغيرهم . قال فيه شعبة : محمد بن إسحاق أمير المحدثين ، هو أمير المؤمنين في الحديث والعجب أن الطاعنين عليه ههنا هم الذين احتجوا بروايته التي لم يروها غيره في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بالنكاح الأول بعد إسلامه ، فإذا روى ما [ ص: 272 ] يظنون أنه يوافق تقليدهم : صار ثقة ، وصار حديثه حجة ; وإذا روى ما يخالفهم : صار مجرحا و { حسبنا الله ونعم الوكيل } وأما رواية مكحول هذا الخبر مرة عن محمود ومرة عن نافع بن محمود فهذا قوة للحديث لا وهن ; لأن كليهما ثقة . وحتى لو لم يأت هذا الخبر لما وجب بقوله عليه السلام : { إذا قرأ فأنصتوا } إلا ترك القراءة حين قراءته ، ويبقى وجوب قراءتها في سكتات الإمام فكيف وهذه اللفظة - : يعني { إذا قرأ فأنصتوا } قد أنكرها كثير من أئمة الحديث وقالوا : إن محمد بن غيلان أخطأ في إيرادها ، وليست من الحديث ، قال ذلك ابن معين وغيره . قال علي : وأما نحن فلا نقول فيما رواه الثقة : إنه خطأ ; إلا ببرهان واضح ; لكن وجه العمل هو ما أردنا - وبالله تعال التوفيق . قال علي : وقال بعضهم : معنى قوله عليه السلام : { لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن } إنما معناه لا صلاة كاملة ، كما جاء { لا إيمان لمن لا أمانة له } قال علي : وهذا لا متعلق لهم به ، لأنه إذا لم تتم صلاة أو لم تكمل : فلا صلاة له أصلا ; إذ بعض الصلاة لا ينوب عن جميعها . وكذلك من لا أمانة له ; فالأمانة : هي الشريعة كلها ; قال الله تعالى { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } . فنعم : من لا أمانة له فلا إيمان له ; ومن لا شريعة له فلا دين له - هذا ظاهر اللفظين الذي لا يحل صرفهما عنه . وقد أقدم آخرون فقالوا : معنى قوله عليه السلام : { لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن } إنما هو على التغليظ قال علي : وهذا تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد . ومن كذبه عليه السلام : فقد كفر ; ولا أعظم من كفر من يقول : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غلظ بهذا القول وليس هو حقا . [ ص: 273 ] قال علي : وقد جاءت أحاديث ساقطة كلها فيها { من كان له إمام فإن قراءة الإمام له قراءة } وفي بعضها " ما أرى الإمام إلا قد كفاه " . وكلها إما مرسل ; وإما من رواية جابر الجعفي الكذاب ، وإما عن مجهول - ولو صحت كلها لكان قوله عليه السلام : { لا تفعلوا إلا بأم القرآن } كافيا في تأليف جميعها ، فإن ذكر ذاكر : حديثا رويناه من طريق البزار عن محمد بن بشار عن أبي عامر العقدي ثنا همام عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعد : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ في صلاتنا بأم القرآن وما تيسر } فإنه عليه السلام لم يقل : وما تيسر من القرآن ; فإذا لم يقله فهو محمول على سائر الذكر . وهكذا نقول بوجوب الذكر في الركوع ، والسجود ، ووجوب التكبير . على أننا قد روينا عن عمران بن الحصين ، وعثمان بن أبي العاص : لا تتم صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، وثلاث آيات فصاعدا ، وعن شعبة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن عباية بن رداد سمعت عمر بن الخطاب يقول : لا تجزئ صلاة إلا بآيتين مع أم القرآن فإن كنت خلف إمام فاقرأ في نفسك . وقد روينا خلاف هذا عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : أن عمر بن الخطاب قال - وقد صلى المغرب بالناس ولم يقرأ شيئا - : أليس قد أتممت الركوع والسجود . ؟ قالوا : بلى ; فلم يعد الصلاة ومن طريق الحارث عن علي : أن رجلا جاء فقال : إني صليت ولم أقرأ ، قال : أتممت الركوع والسجود ؟ قال له : نعم ; قال له علي : تمت صلاتك ; ما كل أحد يحسن أن يقرأ ، قال علي بن أحمد : لا حجة في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية