الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فقد كذبوا بالحق لما جاءهم

فقد كذبوا بالحق لما جاءهم

فقد كذبوا بالحق لما جاءهم

من النظائر القرآنية الآيتان الكريمتان:

الأولى: قوله عز وجل: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} (الأنعام:5).

الثانية: قوله سبحانه: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} (الشعراء:6).

فقد ذكر سبحانه في الآية التي في الأنعام ما كذبوا به، وهو الحق لما جاءهم، وقال: {فسوف يأتيهم} وفي سورة الشعراء لم يذكر ما كذبوا به، وجعل بدل (سوف) (السين) ومن ثمة يكون السؤال: ما وجه هذا الاختلاف بين الآيتين؟ وهل كان يجوز أحدهما مكان الآخر؟

أجاب الخطيب الإسكافي عن هذا السؤال بما حاصله: إن آية الأنعام قد وُفِّيَ المعنى فيها حقه من اللفظ؛ لأنها سابقة للثانية، وإن كانتا مكيتين، فجاءت ألفاظ آية الأنعام مستوفية لمعناها.

أما آية الشعراء فقد بُنيت على الاختصار لما سبق في الأولى من البيان؛ لذا اقتصر على قوله: {كذبوا} وهذا اللفظ إذا أُطلق كان لمن كذب بالحق، كقوله عز وجل: {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات:15) وصار قوله تعالى في الشعراء: {فقد كذبوا} من هذا القبيل بعد البيان الذي سبق في سورة الأنعام.

فحاصل جواب الإسكافي أن آية الأنعام لما كانت متقدمة ناسبها الإطناب، فذكر سبحانه قوله: {بالحق} وقوله تعالى: {فسوف} أما آية الشعراء لما تأخرت عن آية الأنعام، فقد ناسبها الإيجاز.

وأجاب ابن الزبير الغرناطي بنحو قريب من جواب الإسكافي، وحاصل جوابه أن آية الأنعام لما ترتبت على إطناب وبسط آيات من حمده سبحانه، وانفراده بالخلق والاختراع؛ حيث قال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام:1) فذكر سبحانه خلق السماوات والأرض، وخلق الظلمات والنور؛ فالظلمات عن أجرام هذه المخلوقات، والأنوار عن أجرام ما جعل في السماوات وزينها بها من شمس وقمر وكواكب للاقتداء والضياء.

ثم ذكر سبحانه خلقهم من طين، وقد تردد في الكتاب العزيز تنبيه المكلفين بما صُدِّرت به سورة الأنعام، فقال تعالى: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين} (الجاثية:3) وقال تعالى أيضاً: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} (الفرقان:61).

ثم قال بعد آية الأنعام: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} (الأنعام:4) فلما تقدم هذا الإطناب، ناسبه ما أتبع به من قوله تعالى: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا يستهزئون} (الأنعام:5) فناسب الإطناب الإطناب.

أما آية الشعراء فقد سبقها قوله سبحانه: {تلك آيات الكتاب المبين} (الشعراء:2) ثم اعترض بتسلية نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} (الشعراء:3) وليس هذا المـُعْتَرض به مما ذكروا به، ثم قال بعد: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} (الشعراء:4) وهذا راجع إلى تسليته عليه السلام، فلم يبق مجرداً لتذكيرهم سوى قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} (الشعراء:2) وما بعدُ من وعيدهم وتهديدهم بقوله: {وما يأتيهم من ذكر} (الشعراء:5) وهذا إيجاز، فناسبه ما تعلق به من قولهم: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} (الشعراء:6) إيجازاً لإيجازٍ، وإطناباً لإطناب.

وحاصل جواب الغرناطي أن آية الإنعام لما بُنيت على الإطناب ناسبها ذكر قوله تعالى: {بالحق} والإتيان بحرف التنفيس {فسوف} أما آية الشعراء لما كان مبناها على الاختصار، فقد ناسبها عدم ذكر ما ذكره في سورة الأنعام.

وبالمقارنة يتبين أن توجيه الإسكافي للآيتين مرده إلى التقديم والتأخير؛ فالتقديم يقتضي التفصيل، والتأخير يقتضي الإيجاز، أما الغرناطي فتوجيه الآية عنده مرده إلى الإطناب والإيجاز، فحيث أن آية الأنعام جاءت في سياق الإطناب، فقد اقتضى المقام الإطناب في القول، وحيث أن آية الشعراء جاءت في سياق الإيجاز، فقد اقتضى المقام الإيجاز.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة