الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خبر عن الإمام أبي حنيفة وتفنيده

السؤال

هل هذا الأثر صحيح في ذم أبي حنيفة؟ روى الفسوي في كتاب المعرفة والتاريخ (ج1/ص368): حدثني علي بن عثمان بن نفيل حدثنا أبو مسهر حدثنا يحيى بن حمزة - وسعيد يسمع - : أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلًا عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسًا, فقال سعيد: هذا الكفر صراحًا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن مثل هذا المقولة مما ينبغي القطع بأن الإمام أبا حنيفة لم يفهْ بها، فهذه المقولة لا يقولها عاقل من بني آدم، فكيف بمسلم؟ بل برجل من أئمة المسلمين وفقهائهم الكبار؟ قال ابن النجار في كتابه الرد على أبي بكر بن الخطيب البغدادي: وأما ما نقله عن محمد بن الحسين بن الفضل القطان إلى يحيى بن حمزة أَنَّ أَبَا حنيفة قَالَ: لو أَنَّ رجلًا عبده هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسًا, فَقَالَ سَعِيد: هَذَا الكفر صراحًا. فهذا لم ينقله أحد من أصحاب أبي حنيفة, واعلم أن أصحاب الإنسان أعرف به من الأجنبي، ثم اعلم أن مذهب أبي حنيفة له أصول وقواعد وشروط لا يخرج عنها، فأما أصول مذهبه - رضي الله عنه - فإنه يرى الأخذ بالقرآن والآثار ما وجد ... فإذا ثبت أن هذه أصول أبي حنيفة فكيف يسوغ له أن يقول هذا مع علمه بقوله تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى .؟! فهذا لا يصح عن أبي حنيفة. اهـ باختصار.

وجاء في كتاب مكانة الإمام أبي حنيفة بين المحدثين للدكتور محمد الحارثي: قال الخطيب: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن الحسين بن الفضل القطان، أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، حدّثنا يعقوب بن سفيان، حدثني علي بن عثمان بن نفيل، حدّثنا أبو مسهر، حَدَّثَنَا يَحْيَى بن حمزة - وَسَعِيد يسمع - أَنَّ أَبَا حنيفة قَالَ: لو أَنَّ رجلًا عَبْد هذه النعل يتقرب بها إلى الله، لم أر بذلك بأسًا, فَقَالَ سَعِيد: هَذَا الكفر صراحًا. ورواه مرة أخرى فقال: أخبرنا ابن رزق، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن جعفر بْن سلم، حَدَّثَنَا أحمد بن علي الأبار، حدّثنا عبد الأعلى بن واصل، حدّثنا أبي، حَدَّثَنَا ابن فضيل عن الْقَاسِم بن حبيب قَالَ: وضعت نعلي في الحصى ثُمَّ قُلْتُ لأبي حنيفة: أرأيت رجلًا صلى لهذه النعل حَتَّى مات، إِلا أَنَّهُ يعرف الله بقلبه؟ فَقَالَ: مؤمن, فَقُلْتُ: لا أكلمك أبدًا. وهاتان الروايتان المضطربتان تنطقان بالكذب الواضح والافتراء من الذي لا يخشى الله، ففي الأولى عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، ضعفه اللالكائي, وقال البرقاني: ضعفوه، وعلي بن عثمان بن نفيل مجهول لم أجد من ترجم له، ولعله خبط في السند خبط عشواء، أو ألصق هكذا, ثم إن يحيى بن حمزة إن كان هو القاضي المشهور فهو دمشقي, ولم يثبت أن أبا حنيفة رحل إلى الشام ولم يدخل يحيى الكوفة، ولم يلتق بأبي حنيفة وإن كانا متعاصرين, وفي الرواية الثانية القاسم بن حبيب, قال عنه ابن معين: لا شيء, وضعفه الذهبي ,وابن الجوزي, وكثير من العلماء، وأما من ناحية المتن فإنا نحيل أن يصدر مثل هذا عن أبي حنيفة, بل نحيل أن يصدر مثل هذا عن أصغر عالم من علماء المسلمين، فما لنا عن عالم شهدت له الدنيا بالعلم والعقل، فما هذا إلا من التعصب المذهبي - قاتل الله دعاته -. اهـ.

وقد بين ابن عبد البر في كتاب الانتقاء سبب صدور مثل هذه الأقوال الطاعنة على الإمام أبي حنيفة، فقال: كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ اسْتَجَازُوا الطَّعْنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِرَدِّهِ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الآحَادِ الْعُدُولِ؛ لأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَرْضِهَا عَلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحَادِيثِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ, فَمَا شَذَّ عَنْ ذَلِكَ رَدَّهُ وَسَمَّاهُ شَاذًّا, وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُ: الطَّاعَاتُ مِنَ الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا لَا تُسَمَّى إِيمَانًا, وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يُنْكِرُونَ قَوْلَهُ وَيُبَدِّعُونَهُ بِذَلِكَ, وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مَحْسُودًا لِفَهْمِهِ وَفِطْنَتِهِ .اهـ.

وليعلم أن الأئمة الذي زكوا الإمام أبا حنيفة أكثر من الذين طعنوا فيه، قال ابن عبد البر: الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث، أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس, والإرجاء, وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام، -أنه قد هلك فيه فتيان: محب أفرط, ومبغض أفرط, وقد جاء في الحديث أنه يهلك فيه رجلان محب مطر, ومبغض مفتر، وهذه صفة أهل النباهة, ومن بلغ في الدين والفضل الغاية .اهـ. من جامع بيان العلم وفضله.

بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام أبا حنيفة ضمن الأئمة الذين اتُّفِق على الثناء عليهم، فقال: وقال طائفة: بل من استفاض من بين الناس إيمانه وتقواه, واتفق المسلمون على الثناء عليه - كعمر بن عبد العزيز, والحسن البصري, وسفيان الثوري, وأبي حنيفة, ومالك, والشافعي, وأحمد, والفضيل بن عياض, وأبي سليمان الداراني, ومعروف الكرخي, وعبد الله بن المبارك - رضي الله تعالى عنهم - وغيرهم شهدنا له بالجنة. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وللمزيد من الفائدة في الدفاع عن الإمام أبي حنيفة انظر الفتوى: 43484.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني