الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5966 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت رجال ، فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ) . فقال عمر : قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبكم كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم . ومنهم من يقول ما قال عمر : فلما أكثروا اللغط والاختلاف ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قوموا عني ) قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم .

وفي رواية سليمان بن أبي مسلم الأحول قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى . قلت يا ابن عباس ! وما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه فقال : ( ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ) . فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع . فقالوا : ما شأنه ؟ ! أهجر ؟ استفهموه ، فذهبوا يردون عليه . فقال : ( دعوني ، ذروني ، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه ) . فأمرهم بثلاث : فقال : ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ) . وسكت عن الثالثة ، أو قالها فنسيتها ، قال سفيان : هذا من قول سليمان . متفق عليه .

التالي السابق


5966 - ( وعن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ) : بصيغة المفعول أي : حضره الموت ، وفيه تجوز فإنه عاش بعد ذلك اليوم ، وهو يوم الخميس إلى يوم الاثنين ، وقيل : التقدير لما حضره هم الموت ( وفي البيت رجال ) ، أي : كثيرة ( وفيهم عمر بن الخطاب ) : جملتان حاليتان معترضتان بين لما وجوابه وهو قوله : ( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( هلموا ) ، أي : تعالوا واحضروا ( أكتب لكم كتابا ) : بالجزم جوابا وقوله ( لن تضلوا بعده ) . صفة لكتابا قال النووي في شرح مسلم : اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الكذب ، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته ومرضه ، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه ، وليس هو معصوما من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام مما لا نقص فيه بمنزلته ، ولا فساد لما تمهد من شريعته ، وقد سحر - عليه السلام - حتى صار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يكن يفعله ، ولم يصدر منه في هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق ، فإذا علمت ما ذكرناه ، فقد اختلفوا في الكتاب الذي أراد كتابته فقيل : أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع . قلت : هذا بعيد جدا إذ التنصيص على خلافة أبي بكر أو عمر أو العباس أو علي لا يحتاج إلى كتابة ، بل كان مجرد القول كافيا ، وللمقصود وافيا ، مع أنه قد أشار إلى خلافة أبي بكر بنيابة الإمامة مع التصريح بقوله : ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) نعم ، لو قيل إنه أراد أن يكتب الخلافة المستمرة خلف وفاته لمن يستحقها واحدا بعد واحد إلى خروج المهدي وظهور عيسى - عليه السلام - لكان له وجه وجيه ، ونبيه ، ولكن أراد الله الأمر مستورا ، وكان ذلك في الكتاب مسطورا ، وقيل : أراد كتابا يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه . قلت : لم يكن في زمانه نزاع ليرتفع ولا خلاف ليندفع ، وأما باعتبار ما بعده من الزمان مما سيقع من الاختلاف في كل مكان ، فقد أخبر بوقوعه بقوله : ( اختلاف أمتي رحمة ) وبقوله : ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) وبقوله : ( عليكم بالسواد الأعظم ) وبقوله ( وإن أفتاك المفتون ) . وقد قال تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم على أن الأحكام الشرعية المتفرقة في عشرين سنة كيف تصير ملخصة منصوصة في ساعة بحيث لا يتصور فيها اختلاف الأمة . نعم لو أريد به قصد أن يكتب كتابا يبين فيه بعض الأحكام التي قد توجد في الأزمنة الآتية مما ليس بمذكور في الكتاب ، ولا بمحفوظ في السنة لا يبعد من طريق الرأفة وسبيل الرحمة على كافة الأمة من الأئمة والعامة ، أو أراد أن يكتب كتابا يبين فيه طريق الفرقة الناجية ، ويفصل فيه أحوال الفرق الضالة من المعتزلة والخوارج والرافضة وسائر المبتدعة .

( فقال عمر - رضي الله عنه - : قد غلب عليه الوجع ) : أراد بما ذكره التخفيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند شدة الوجع وقوله : ( وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله ) . أي : كافيكم في أمر الدين لقوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا وهو خطاب لمن نازعه في ذلك ورد عليه لا على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه - رضي الله عنه - له موافقات وفق بها في مواضع من المخالفات ، فيمكن حمل هذه القضية على الموافقة فترتفع المخالفة ، ويدل عليه سكوته - صلى الله عليه وسلم - على تلك المقالة ، وصرف عنانه عن أمر الكتابة ، هذا وقد عرف عمر أن ذلك الأمر لم يكن حزما منه . بل رعاية لمصالحهم ، وكان أصحابه إذا أمر بشيء غير حازم يراجعونه فيه ، وكان يتركه برأيهم . ( فاختلف أهل البيت ) ، أي : من كان في البيت عنده من أصحابه وأقاربه ( واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا ) ، أي : الدواة والقلم ( يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بالجزم على جواب الأمر أي : يمل عليكم ما أراد كتابته ( ومنهم من يقول ما قال عمر ) . أي : من المنع لشدة الوجع ( فلما أكثروا اللغط ) : بفتحتين أي : الصوت الذي لا يفهم مبناه ، ولا يتبين معناه ( والاختلاف ) ، أي : الموجب للنزاع والخلاف ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قوموا عني ) ، أي : فإني تركت قصد الكتابة اعتمادا على ما ثبت عندكم من الكتاب والسنة .

[ ص: 3851 ] قال النووي . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ، ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ، وأما قول عمر - رضي الله عنه - : حسبكم كتاب الله ، فقد اتفقوا على أنه من دلائل فقهه وفضائله ودقائق نظره وفهمه ، لأنه خشي أن يكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمورا ربما عجزوا عنها ، واستحقوا العقوبة عليها لكونها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها ، وأشار قوله : حسبكم كتاب الله إلى قوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم .

( قال عبيد الله ) ، أي : ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهزلي ، ولد أخي عبد الله بن مسعود ، وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل الحديث ، سمع ابن عباس وخلقا كثيرا من الصحابة . ( فكان ابن عباس يقول : إن الرزيئة ) : بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ساكنة ثم همزة ، وقد يسهل فتشدد الياء على ما في شرح البخاري أي المصيبة ( كل الرزيئة ) ، أي : تمامها وكمالها ( ما حال ) ، أي : الحال الذي وقع حائلا وصار مانعا ( بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم ) . متعلق بحال ، وكان ابن عباس مال إلى خلاف ما قال عمر ، ومن تبعه من الصحابة فتدبر . قال البيهقي في كتاب دلائل النبوة : إنما قصد عمر - رضي الله عنه - بذلك التخفيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين غلب الوجع عليه ، ولو كان مراده - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم لقوله تعالى : بلغ ما أنزل إليك من ربك كما لم يترك التبليغ لمخالفة من خالفه ، ومعاداة من عاداه ، وكما أمر في تلك الحالة بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك يعني بما سيأتي بيانه . قال : وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه - ثم ترك ذلك اعتمادا على علمه من تقدير الله تعالى ذلك ، كما هم بالكتابة في أول مرضه حين قال : وارأساه ! ثم ترك الكتابة وقال : ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) وذلك بسبب استخلافه أبا بكر في الصلاة . وقال : أيضا : وإن كان المراد به بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك من قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب والسنة بيانها نصا أو دلالة ، وفي تكلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه مع شدة وجعه كتابه ذلك مشقة ، فرأى الاقتصار على ما سبق بيانه تخفيفا عليه ، ولا ينسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط ، وإلحاق الفروع بالأصول ; فرأى عمر - رضي الله عنه - أن الصواب ترك الكتابة تخفيفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضيلة للمجتهدين ، وفي تركه - صلى الله عليه وسلم - الإنكار على عمر دليل على استصواب رأيه ، وكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه .

( وفي رواية سليمان بن أبي مسلم الأحول ) : قال المؤلف : هو خال ابن أبي نجيح تابعي من أثبات الحجازيين وأئمتهم سمع طاوسا وأبا سلمة . وروى عنه ابن عيينة وابن جريج وشعبة . ( قال ابن عباس ؟ يوم الخميس ) : مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو عكسه وقوله : ( وما يوم الخميس ) ؟ يستعمل عند إرادة تفخيم الأمر والشدة والتعجب منه كقوله تعالى : الحاقة ما الحاقة و القارعة ما القارعة ( ثم بكى ) ، أي : ابن عباس ( حتى بلغ دمعه الحصى ) ، أي حتى سالت دموعه بلا إحصاء ، ووصلت إلى ما في الأرض من الحصى ، ثم بكاؤه يحتمل أن يكون لتذكر وفاته ، وفقدان حياته - صلى الله عليه وسلم - بتجدد الحزن عليه ، أو لفوات ما فات في معتقده من الخير الذي كان يحصل لو كان كتب ذلك الكتاب ، وهذا هو الأظهر في المقام والأنسب فيما أراده من المرام . ( قلت : ؟ يا ابن عباس ! وما يوم الخميس ) ؟ قال ميرك : قائله سعيد بن جبير الراوي ، عن ابن عباس . وظاهر إيراد المصنف يقتضي أن قائله سليمان وليس كذلك ، وهذا ظاهر من سياق البخاري ( قال : اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه ) ، أي : في ذلك اليوم .

[ ص: 3852 ] فقال : ( ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا ) : بالجزم في جميع النسخ الحاضرة المصححة المقروءة فعلى هذا يشكل جزم قوله : ( لا تضلوا بعده أبدا ) . ولعل وجهه أن يكون جوابا لشرط مقدر ، أي : إن كتب لكم وعملتم به لا تضلوا أي : لا تصيروا ضالين ، وفي نسخة أن لا تضلوا وهو واضح جدا أي لئلا تضلوا ، أو مخافة أن لا تضلوا ( فتنازعوا ) ، أي : أمرهم بينهم ، واختلفوا في رأيهم ( ولا ينبغي عند نبي تنازع ) : قيل : هو من جملة الحديث المرفوع ، ويؤيده ما تقدم في العلم بلفظ : ولا ينبغي عندي التنازع ، ويحتمل أن يكون مدرجا من قول ابن عباس ، وهو الظاهر المتبادر . ( فقالوا ) ، أي : بعضهم ( ما شأنه ) ؟ أي حاله - صلى الله عليه وسلم - ( أهجر ) ؟ بفتحات أي : اختلف كلامه من جهة المرض على سبيل الاستفهام . وفي النهاية أي : هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض ، ولا يجعل إخبارا فيكون من الفحش والهذيان ، والقائل عمر ، ولا يظن به ذلك . قال الخطابي : ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ظن به غير ذلك مما لا يليق بحاله ، لكنه لما رأى ما غلب عليه - صلى الله عليه وسلم - من الوجع وقرب الوفاة ، مع ما غشيه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه ، فيجد المنافقون بذلك سبيلا إلى الكلام في الدين ، وقد كان أصحابه يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتم ، كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش ، فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة ، فلا يراجعه فيه أحد منهم ، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الله - تعالى - رفع درجته فوق الخلق كلهم لم ينزهه من سمات الحدوث والعوارض البشرية وقدسها في الصلاة ، فينبغي أن يتوقف في مثل هذا حتى يتبين حقيقته ، فلهذا المعنى وشبهه راجعه عمر - رضي الله عنه - .

وفي شرح مسلم قال القاضي عياض : أهجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا في صحيح مسلم وغيره : أهجر على الاستفهام ، وهو أصح من رواية من روى هجر بغير همز ; لأنه لا يصح منه - صلى الله عليه وسلم - لأن معنى هجر هذى ، وإنما جاء هذا من قائله استفهاما للإنكار على من قال : لا تكتبوا أي : لا تتركوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يهجر ، وإن صحت الرواية الأخرى كانت خطأ من قائلها لأنه قالها بغير ثبت لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظم ما شاهده من النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة الدالة على وفاته . وخوف الفتن والضلال بعد حياته . أقول : لو صحت الرواية لزم حملها على تقدير الاستفهام كما يدل عليه قوله : ( استفهموه ) . بكسر الهاء ، وفي بعض النسخ بفتحها ، وهذا فتح الباري قوله : أهجر ؟ بهمزة عند جميع رواة البخاري في كتاب المغازي ، وفي رواية في الجهاد بلفظ قالوا : هجر بغير همزة ، وعند الكشميهني فقالوا : هجر هجر .

قال القاضي : معنى أهجر أفحش ، يقال : هجر الرجل إذا هذى ، وأهجر إذا فحش وتعسف ، فإنه يستلزم سكون الهاء والروايات كلها إنما هي بفتحها ، وقد تكلم القاضي وغيره في هذا الموضع ، فلخصه القرطبي تلخيصا حسنا ، ثم لخصته من كلامه . وحاصله أن قوله : هجر الراجح فيه إثبات الهمزة الاستفهامية ، وبفتحات على أنه فعل ماض ، والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض مما لا ينتظم ، ولا يعتد به لعدم فائدته ووقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - مستحيل ; لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقا ) . وإذا عرفت ذلك فإنما مال من قال منكرا على من يتوقف في امتثال أمره بإحضار أسباب الكتابة ، فكأنه قال : أتتوقف في ذلك ، أتظن أنه بتغيره يقول الهذيان في مرضه امتثل أمره وأحضر ما طلبه ، فإنه لا يقول إلا الحق ، وهذا أحسن الأجوبة . قال : ويحتمل أنه قال ذلك عن شك عرض له ، ولكن يبعد أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة ولو أنكروه لنقل ، ويحتمل أن يكون الذي صدر منه قال ذلك من دهشته وحيرته ، كما أصاب كثيرا منهم عند موته . وقال غيره : يحتمل أن القائل ذلك أراد اشتداد وجعه ، فأطلق اللازم ، وأراد الملزوم لأن الهذيان الذي يقع من المريض ينشأ عن شدة مرضه واشتداد وجعه . وقيل ، قال : لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده ، فكأنه قال : إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ذلك ، ويحتمل أن يكون قوله : أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح أوله وسكون ثانيه والمفعول محذوف أي الحياة ، وذكر بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت عليه . قلت : ويظهر ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي ، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام اه . وأقول : هذا بعيد من المرام ومقام الكرام ، فإن مثله لا يكون مع الأصحاب الفخام ، وعلى التنزل فلا يسكتون عنه من غير زجر ولو بالكلام والله أعلم بحقيقة المرام .

[ ص: 3853 ] ( فذهبوا ) ، أي : فشرع بعض أصحابه ( يردون عليه ) ، أي : هذا الرأي صريحا بخلاف قول عمر فإنه كان تلويحا ( فقال : ( دعوني ) ، أي اتركوني ( ذروني ) ، بمعناه تأكيد له ، والمعنى دعوني من النزاع واللغط الذي شرعتم فيه ( فالذي أنا فيه ) ، أي : من مراقبة الله ، تعالى ، والتأهب للقائه ، والتفكر في ذلك ونحوه ( خير مما تدعونني إليه ) . أي أفضل مما أنتم عليه من الاختلاف واللغط . قال الخطابي : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( اختلاف أمتي رحمة ) . والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام : أحدها في إثبات الصانع ووحدانيته ، وإنكار ذلك كفر ، وثانيها : في صفاته وإنكارها بدعة . وثالثها : في أحكام الفروع المحتملة وجوها ، فهذا جعله الله ، تعالى ، رحمة وكرامة للعلماء . وقال المازري : إن قيل : كيف جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع قوله : ( ائتوني أكتب ) فالجواب : أن الأوامر يقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال أصلها الندب ، ومن الوجوب إلى الندب عند من قال أصلها الوجوب ، فلعله ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - من القرائن ما دل على أنه لم يوجب ذلك عليهم ، بل جعله إلى اختيارهم ، فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم ، وهو دليل على رجوعهم إلى الاجتهاد في الشرعيات ، وأدى اجتهاد عمر - رضي الله عنه - إلى الامتناع ، ولعله اعتقد أن ذلك صدر منه - صلى الله عليه وسلم - من غير قصد جازم ، وكان هذا قرينة في إرادة عدم الوجوب والله أعلم .

( فأمرهم بثلاث ) ، أي : خصال ( فقال ) : تفسير لما قبله ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) ، مر بيانه في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ( وأجيزوا الوفد ) ، أي : أكرموا الوافدين عليكم والواصلين إليكم من حواليكم ، وأعطوهم الجائزة والعطية فيما لديكم ( بنحو ما كنت أجيزهم ) . أي كمية وكيفية والتمييز فيما بينهم بحسب ما يليق بهم . قال النووي : أمر - صلى الله عليه وسلم - بإكرام الوفود وضيافتهم تطييبا لنفوسهم ، وترغيبا لغيرهم من المؤلفة وقالوا : سواء كان الوفد مسلمين أو كفارا ; لأن الكافر إنما يفد غالبا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحه . ( وسكت ) ، أي : ابن عباس ( عن الثالثة ) ، أي : نسيانا منه أو اقتصارا ( أو قالها ) أي ذكرها ( فنسيتها ) . وفي نسخة بضم النون وتشديد السين ( قال سفيان ) . الظاهر أنه ابن عيينة ( هذا ) ، أي : قوله سكت ( من قول سليمان ) . أي الأحوال . قال النووي : الساكت هو ابن عباس ، والناسي سعيد بن جبير . قال مهلب : والثالثة تجهيز جيش أسامة . وقال القاضي عياض : ويحتمل أنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تتخذوا قبري وثنا يعبد ) ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية