الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ابدأ بنفسك فتصدق عليها

السؤال

أنا طالب تخرجت منذ سنة في الجامعة، ومن أولوياتي -حاليا- أن أجد عملا جيدا، حتى أتزوج، أرغب في الزواج منذ أن كنت أدرس في الجامعة، لكن أعاني من الظروف الصعبة التي يعاني منها كثير من شباب اليوم ممن يرغبون في الزواج. الله المستعان. ظروف عائلتي المادية جيدة جدا، ومستقرة -ولله الحمد-، ولكن القانون في عائلتي بشكل عام هو أن أعتمد على نفسي بعد التخرج، حتى إن تسبب ذلك في تأخري في الزواج.
لم أستطع العمل باختصاصي، فعملت في عدة أعمال حرة بعد تخرجي بالمهارات الأخرى التي لدي -ولله الحمد-، وكنت أحاول قدر الإمكان أن أوفر قدرا من تكاليف الزواج، في الحقيقة بشكل عام لم تكن الأعمال مستقرة، وبالكاد كنت أستطيع توفير المال. بعد فترة جمعت مبلغا قليلا، ثم عرض علي باب من أبواب الخير، فتبرعت بكل ما لدي من مال -تقريبا- في هذا الباب، راجيا الأجر، والعوض من الله -عز وجل-، شاء الله، وقدر بعد أن تبرعت بما لدي، قل العمل بشكل ملحوظ، وأصبحت الأوضاع المادية أصعب، حتى إنني اضطررت لأن أستدين مبلغا من المال للسفر إلى دولة أخرى بحثا عن العمل، وعليه لم أستطع حتى أن أخطب الفتاة التي أرجو الله أن تكون قرة عين لي. بعد أن وضحت وضعي في هذه المقدمة، سأحاول صياغة السؤال بشكل واضح: نعلم من السيرة بأن أبا بكر -رضي الله عنه- تبرع بكل ماله، وعمر -رضي الله عنه- بنصف ماله، وعثمان -رضي الله عنه- جهز جيش العسرة، وأنا فعلت ذلك تأسيا بهم -رضوان الله عليهم-، بالتأكيد لست معترضا على قضاء الله، وقدره، وعلى وضعي الحالي، ولا مانع لدي من تكرار التبرع بما لدي مرة أخرى، ولكني لا أعلم، كيف سأجمع تكاليف الزواج في هذه الحالة، ولا أعلم، إن كان فعلي هذا صحيحا. فهل يستطيع الإنسان أن يوازن في مثل هذه الأمور؟ ماذا أفعل، إذا تعرضت لهذا الموقف في المستقبل؟ أنا الآن المسؤوليات لدي قليلة، لكن ماذا في المستقبل عندما أتزوج -إن شاء الله-، وأصبح أنا المسؤول عن زوجتي؟ هل من الصحيح أن أتبرع بكل ما لدي، أو بمبلغ كبير مما أملك؟
بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فجزاك الله خيرا على حرصك على أعمال البر، ورغبتك فيما عند الله من الثواب، ولا شك في كون الصدقة من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله، ومن أعظم أسباب صلاح القلوب، وتطهير النفوس، لكن الأصل أنّ يبدأ الإنسان بالإنفاق على نفسه قبل أن يتصدق على غيره، ففي حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فضل شيء، فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء، فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا، وهكذا. رواه مسلم.

وعن حكيم بن حزام أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. متفق عليه.

فإن استطعت أن تجمع بين ادخار المال الذي تحتاج إليه لنفقتك، ومؤنة زواجك، وبين التصدق ببعض المال؛ فهذا أفضل، وأكمل، وأما إذا لم يمكنك الجمع بين الأمرين، فحاجتك، وحاجة من تعول أولى.

وأمّا التأسي بفعل كبار الصحابة، كالصديق أبي بكر، وعمر -رضي الله عنهما-، بالتصدق بكل المال، أو نصفه؛ فهذا سائغ لمن كان قوي اليقين راسخ القدم في التوكل على الله -تعالى-، وليس سائغا لكل أحد؛ وبهذا جمع العلماء بين قوله -صلى الله عليه وسلم-: خير الصدقة عن ظهر غنى. وقوله -صلى الله عليه وسلم- حين سئل عن أفضل الصدقة، قال: جهد المقل....

قال المناوي -رحمه الله في فيض القدير: وفيه أن تبقية بعض المال أفضل من التصدق بكله؛ ليرجع كلاً على الناس، إلا لأهل اليقين، كالصديق، وأضرابه، ومحصوله أن الفضيلة تتفاوت بحسب الأشخاص، وقوة التوكل، وضعف اليقين. انتهى.

وقال الصنعاني -رحمه الله- في سبل السلام: ووجه الجمع بين هذا الحديث، والذي قبله ما قاله البيهقي، ولفظه: والجمع بين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وقوله: " أفضل الصدقة جهد المقل" أنه يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر على الفاقة، والشدة، والاكتفاء بأقل الكفاية، وساق أحاديث تدل على ذلك. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني